الاثنين، 15 سبتمبر 2008

الشاعر





الضيعة التي أختارها جدي ياسين لنقيم معه بعد أن حلت اللعنة بالمكان منذ نزوحنا من بلدة دير ياسين كانت أشبه بالجنة الموعودة.. منزل حجري مكون من طابقين.. به شرفة تطل على بساتين الكروم والزيتون في المنطقة التي تحيط بها الجبال من كل جانب وترتبط بمدينة رام الله بطريق ترابي، تراه من الشرفة التي أعتاد جدي الجلوس فيها كل صباح يجتر الذكريات ويشهد شروق الشمس بين الجبال.. الطريق يمتد أمام نظر جدي حتى يتوارى خلف الجبال كحية غبراء طويلة، كان جدي يتأمل هذا الطريق المترب بعينين كعيني الصقر وبقلب متوجس من شرفته العالية.. بعد أن تدفعه أمي فاطمة بكرسيه ذو العجلات فقد تقدم به العمر كثيراً..يتألف بيتنا من أربع غرف في الطابق الأرضي، غرفة نقيم فيها أنا وشقيقي الصغير بسام.. غرفة يقيم فيها جدي وحده، غرفة يقيم فيها خالي محمود وحده أيضاً وتقيم زوجته زهرة وطفله محمد مع أمي.. لعلكم تتساءلون. لماذا يقيم خالي محمود وأسرته الصغيرة معناَ هكذاً؟!



* * *



قبل عامين وفي عيد الفطر.. قامت أمي كالمعتاد بصنع الكعك وتجهيزه لنا. أنا وجدي لنأخذه في زيارتنا المعتادة لخالي محمود في رام الله لتهنئته بالعيد والبيت الجديد، في ذلك اليوم المشهود عندما نزلنا من الحافلة واتجهنا إلى بيت خالي في الضاحية الجديدة فوجئنا بجنود الاحتلال يحاصرون المنزل والجرافات تقف عن كثب.. اقتربنا من المنزل وجدت زوجة خالي زهرة تولول.. خرج الجنود يسحبون خالي محمود النحيف البنية بقسوة ويقذفون به وطفله الذي بين يديه في الشارع وتحركت الجرافات لهدم المنزل الجديد، ظل خالي يقاوم بشدة والجنود يدفعونه ويسقط في الأرض المرة تلو المرة، استشاط جدي غضباً وناولني سلة العكك ودفعني بعيداً وانقض على الجنود وانتزع خالي من براثنهم واحتضنه، ظل جسد خالي ينتفض بشدة وأخذ يعوي في حرقة. كانت نظرة واحدة لعينيه الطيبتين كافية لأعرف أن خالي قد فقد عقله تماماً، حدق فيه جدي في أسى متمتماً.- يرحمك الله يا ولدي محمود .. أنت لا تتقن شيء سوى الشعر ولا تستطيع مقارعة اللعنة التي حلت بالمكان !!ظل محمود يصرخ ويهزئ ويلعن حتى بعد تركنا المدينة.. وقفلنا عائدين إلى البيت .. هناك استقبلتنا أمي المتشحة دائماً بالسواد والهلع يغمر عينيها ومنذ لك اليوم وضع جدي القيد على كاحل خالي المجنون وحبسه في غرفته وحيداً.. كنت دائماً أنظر في عيون خالي الزاهلتين وفمه المطبق بإصرار وأحس باالهوان.. ويقوم جدي بنظافته وحلاقة شعره ويحرص دائماً على ابعاد أي أداة حادة أو شيء يجعله يؤذي نفسه.



* * *



في البهو الكبير حيث نجتمع على الطعام تطالعك صورة عائلية لأسرتي.. أمي وأبي عبدالناصر الذي استشهد في حرب الاستنزاف في أواخر الستينيات بعد أن نفذ عملية ضد قوات الاحتلال ومن حينها وأمي غارقة في السواد والنواح وتردد دائماً أنها في انتظار الضيف ولما كبرت عرفت أن الضيف الذي تنتظره أمي الصابرة هو ملك الموت.تطالعك أيضاً صورة شقيقتي سعاد، كانت تقيم معنا في الطابق الثاني مع زوجها وأولادها ثم هاجرو إلى لبنان في بداية الثمانينات، ذبحت مع زوجها وأولادها في مجزرة صبرا وشاتيلا وفي تلك الأيام بكت أمي بكاء امرأً وانهار جدي وأصبح يجلس على الكرسي ذو العجلات.



* * *



جدي ياسين رجل صلب المراس، قوي الشكيمة، له جسد فارع ومفتول العضلات، كانت تجمعني به أكثر من صداقة لابد أنه يرى نفسه في شخصي، أخبرني كيف كانوا في الماضي يقاومون الاحتلال واللعنة التي حلت بالمكان … أخبرني عن صديقه سعيد الذي يطلق عليه أبو النصر .. كان جدي يزور عائلة أبو النصر في دير ياسين .. أو قل ما تبقى من عائلة الرجل.. امرأة مسنة تجلس وحيدة في بيت كان حافل بالذكريات، ويدور هذا الحوار بيني وبين جدي.- أين زوجها يا جدي؟ - في السجن منذ 1948.- اين ابناؤها؟ - في امريكا وهم يحملون شهادات عليا.. أنهم أسرة عبقرية.كنت اتجول في ردهات المنزل الخالي .. رأيت صورة لامرأة جميلة تحمل طفل وتحيط بها الملائكة.



- لمن هذه الصورة يا جدي؟



- انها مريم العذراء.



- هل هم مسيحيين يا جدي؟



- نعم.



- هل هم فلسطينيين؟



- نعم .. وعندنا تكبر قليلاً سأخذك لتزور أبو النصر.



وأظل أدور في البيت الخالي الذي يلفه الصمت وجدي جالس يرشف الشاي مع المرأة المسنة تحدثه عن أخبار ولديها وأحفادها في أمريكا وتوصيه لزوجها عندما يذهب إلى زيارته في السجن..



* * *



عندما ذهبنا إلى زيارة أبو النصر في السجن، وجدت إثارة لا توصف، كان جدي في اليوم الذي يقرر فيه السفر لزيارة صديقه يكتنفه نشاط غير عادي يرتدي أجمل الثياب ويحلق ويتطيب ويحمل معه حقيبة ملأة بكل ما يفرح الرجال خلف الأسوار، نمر خلف الأسلاك الشائكة والأبواب العديدة والجدران العالية والتفتيش المضني ونجلس في القاعة الكبرى ونلتقي بسعيد، تصيبني القشعريرة عندما أرى سعيد.. رجل في السبعين من عمره له شعر فضي وعينان زرقاوان تشعان سلام وطمأنينة، كان أيضاً ضخم الجثة كجدي، يتعانقان بقوة ويحاول كل منهما أن يقهر الآخر في لعبة قبضة اليد، وذلك بعد أن يتحدثا أحاديث ذات شجون عن اللعنة التي حلت بالمكان، وبرموز لا أفهمها.. قبل انتهاء الزيارة يقوما بفعلتهما التي تثير استياء الحراس وتزلزل قاعة السجن مستغلان التفاف السجناء حولهما وهما يمارسان لعبة لوي الذراع المفضلة لديهما.. يبدأ الضرب على الطاولة بطريقة رتيبة ويمتد الضرب إلى كل الطاولات ويندفع الزائير كدوي النحل



.مهما هم تأخروافإنهم يأتون



من درب رام الله



أو من جبل الزيتون



من دمى الأطفال



من أساور النساء



باقة أنبياء ليست لهم هوية



ليست لهم اسماء



يأتون مثل المن والسلوىمن السماء.



ويعم الهرج.. ويعلن الجرس انتهاء الزيارة ويدفعنا الحراس الساخطين للخروج ونتخطى الأبواب الكثيرة والأسلاك الشائكة والجنود المدججين بالأسلحة في رحلة العودة، يغمر وجه جدي الحزن النبيل ويظل صامتاً حتى نعود إلى البيت.



* * *



كان الصباح مهيباً والضباب يغمر الوادي، أمام البيت وجدي جالس على شرفته يتأمل الطريق المترب البعيد.. أمي تعد طعام الإفطار وتتحرك كالنحلة بين المطبخ وقاعة الطعام، زوجة خالي زهرة تجلس عن كثب تغسل ابنها على الطست وهو يصرخ في هلع من لذع الماء الدافئ ومن داخل الغرفة المغلقة ينبعث أنين خالي محمود .. ينادي بسام أخي الصغير، أنا جالس أذاكر في دروس الكيمياء اللعينة التي تحشو بها رؤوسنا جامعة نابلس .. خرج بسام ليجمع الزهور البرية ذات الرائحة الزكية والمبللة بندى الصباح لخالي الشاعر .. يشرق وجهه وتزول كل آثار الجنون عندما يجلب أخي بسام الزهور ويضعها في أصيص جوار فراشه، تعود له سكينته ويجلسان يتحدثان كصديقين ودوديين، خالي يحب بسام بصورة استثنائية ويستمع إلى احلامه الغضة، أن يكون لاعب كرة قدم ممتاز مثل اللاعب أحمد راضي.. لاعب كرة القدم العراقي.. ظل بسام دائماً يستقبلني بحفاوة عند عودتي من الجامعة، ويخطف حقيبتي ويأخذ من المجلات الرياضية التي بها صر اللاعب أحمد راضي ويقصها ويجمعها ثم يزين بها غرفتنا.



* * *



ظل الجد يتابع حفيده الصغير بنظراته من على الشرفة وعلى فمه ابتسامة عريضة، كان بسام يتنقل كالفراشة من مكان إلى آخر يقطف الأزهار..فجأة من خلف الضباب لمح التراب والغبار يصعدان إلى عنان السماء، فقد كانت هناك دورية لجنود الاحتلال تقترب على طريق المترب.. نظر إليها الجد في توجس.. رفع بسام رأسه وأخذ يحدق في الأفق المدجج بالجنود بغضب، ألقى الزهور جانباً وأوسع الخطى نحوها.. أخذت تقترب رويداً رويداً.. تشنج الجد في كرسيه المتحرك وأخذ ينادي بصوت متحشرج كالفحيح.



- أحمد .. أحـ … مـ…د.



لا زلت جالس أذاكر دروسي وبكاء الطفل وصوت الراديو ونداء خالي في الداخل يشكلون سيموفينة الصباح.. وضعت أمي الطعام وأخذت تتلفت في توجس.



- أين بسام ؟!



- ذهب لقطف الزهور.



- هيا ناديه يا أحمد .. حتى لا يبرد الطعام.



جمعت كتبي ووضعتها في الحقيبة ودفعتها تحت المكتب وخرجت من الباب.. سمعت صوت جدي لأول مرة.. كان يصرخ ويشير بأصبعه إلى بسام الذي غدا نقطة بعيدة تتحرك في الأفق نحو الدورية.عرفت كجدي الخطر المطبق والمقدم عليه أخي، اندفعت إلى الوادي أعدو بكل ما أوتيت من قوة، وأنا أصيح ولكن هيهات.. انحنى بسام والتقط حجر واستعد ليقذف به الدورية.. أصاب الجنود الفزع الشديد.. لعلع الرصاص بأصداء مؤلمة ممزقاً السكون وقذف بأخي كالخرقة على قارعة الطريق وابتعدت الدورية والجنود المذعورين ينظرون إلى الجسد الممدد بلا حراك في رعب شديد.اقتربت من جسد أخي وحملته، كان قد فارق الحياة ، لم تفارق عيناي نظرة الغضب في عينيه والحجر الصغير بين أصابعه المتقلصة.



* * *



جلست أمي وأختي تولولان كالمعتاد واندفعت نحو الشرفة إلى جدي، كان رأسه قد سقط على صدره وقد انقلبت سحنته تماماً وازرق وجهه وبقايا زبد تتساقط من فمه، مات بالسكتة القلبية ولا زال على وجهه آثار السخط على اللعنة التي حلت بالمكان..تجمع أهل البلدة اللذين أفزعهم صوت الرصاص وحملنا الجثمانين إلى المقبرة.. ومنذ تلك اللحظة عرفت المعنى الحقيقي للقهر الذي يعيشه أهلنا في فلسطين. بعد يومين من الحداد استيقظت مبكراً على صراخ زوجة خالي وبكاء طفلها الذي يصم الآذان.. خرجت من غرفتي لأواجه أبشع منظر تقع عليه عيناي، كانت الدماء تسيل من تحت باب الغرفة الموصد وتغمر الردهة وتتسرب إلى الفناء.. خيل لي أن دماء خالي ستغطي أرض فلسطين كلها.. دفعت الباب بقوة.. كان مستلقي كالنائم ويده متدلية إلى الأرض والدماء تندفع من شرايينه المقطوعة كمياه الصنبور.. "لقد عرف خالي موت بسام وجدي الذي أخفيناه عنه" ويبدو أن زهرة نسيت موس الحلاقة أمس وهي تحلق له بدلاً عن جدي الراحل.. أمي لا زالت في غيبوبتها على فراشها لا تعي شيء منذ موت والدها وبسام"..هذه أيضاً ثالث جنازة تخرج من بيتنا في أقل من ثلاث أيام.. وأمي وأختي تندبان وتنوحان وأحزانهم التي لا تنتهي في انتظار الضيف.. أما أنا فسأذهب إليه بنفسي!!



* * *



كانت الحافلة المكتظة بالركاب تقترب من الحاجر الأمني، نظر أحمد في الجنود واحصاهم "ثمانية عشر جندي، صيد ثمين. لعل من بينهم قاتل شقيقي، تحسس الحزام الناسف تحت ملابسه الرياضية التي لا تثير الشبهات، ابتسم في ظفر، لقد قام المهندس يحيى زميله في الجامعة بعمله بمنتهى الاتقان.. لحظات وتنطلق ألسنة الجحيم ويحيل المكان قاعاً صفصفاً، توقفت السيارة أمام الحاجز واقترب الجنود في حذر.. تمتم أحمد بالشهادتين وقفز من الحافلة وأندفع كالنمر الكاسر بين الجنود..



* * *

ليست هناك تعليقات: