الأحد، 22 يونيو 2008








ها انا اركب القطار مرة اخرى عام1988 وذلك للعمل كمعلم كيمياء في مدرسة كريمة الصناعية..كان القطار العجوز المتهالك يزحف بي في الارض الجرداء وانا في غاية الضيق والملل..كنا نسير عبر المحطات المقفرة حتى وصلنا كريمة التى بدت رمادية خاصة بعد الفيضان المدمر الذى حدث في نفس العام..إحياء باكملها تحولت الى انقاض..ارسلو لى برقية من عطبره بعد وصولي كريمة بعدت أيام فحواها ان عمتي سعدة توفت في مستشفى عطبره بمرض السكري نسبة لانعدام مصل الأنسولين..شعرت بالحزن العميق عليها..كان لزام على ان انزل البلد" مورة" مرة اخرى لنقيم العزاء في بيت جدى عم ابى عبد المجيد..هذه المرة كان معي صديق من نوع خاص..من اعز أصدقاء الجامعة..عمر احمد حسن"شوكة"هذا الإنسان المبدع والذي له مكانة في قلبي لا يدانيها إنسان من أصدقاء الزمن الصعب ويحمل معه كاميرته التى يرصد بها كل شئ..كانت الرحلة باللوري لقد توقف النقل النهري منذ امد بعيد واضحت بواخره العتيدة ملقاة كالحيتان النافقة في ورش النقل النهري بكريمة..وصلنا البلد عصرا كانت الرمال قد قضت على كل معالم الحياة ودفنت معظم البيوت المهجورة واجهز الفيضان على السوق والمدرسة الوحيدة في البلدة..تقاطر المعزون من كبار السن الى بيت جدى عبد المجيد..كان الحزن يخيم عليهم جميعا,كأنما كانو ينعون أنفسهم..عند الغروب ذهبت الى بيت جدى احمد الامين الذى تحول الى أطلال وتساقطت معظم حجراته وبين تلك الخرائب كانت تقبع جدتي العتيدة وملهمة فنى "الحرم"وقد ذهب نصف عقلها أصبحت تخاطب الموتى وفى ذلك اليوم بكيت بكاءا مرا أمام صديقي عمر كان عمر الذكى مع كاميرته الجاهزة دائما لرصد هذه التفاصيل وقد قمنا بالتصوير مع الجدة التى اسعدها قدومنا ولم تعرف ان عمتي سعدة توفت ولم نستطيع توصيل هذه الحقيقة أليها فقد انفصل الخيط الفاصل بين الحياة والموت لديهاالجدة العنيدة الحرم خالة ابى كان لها بصمات واضحة في حياتي الأدبية من خلال مخيلتها الثرية التى أتحفتنا بقصصها ونحن صغاراواعتقد ان الكلام عن الحرم بصورة عابرة شيء فيه كثير من الإجحاف أتمنى لو أفراد لها كتاب وحدها..لم استطع أن أوصل لها خبر وفاة العمة وذلك كما أخبرتكم لان عقلها اختل وهى لا نعرف من مات ومن ظل على قيد الحياة..نمنا معا فى الغرفة الوحيدة السليمة فى البيت ونام عمر عند جدى عبد المجيد..في اليوم الثالث بعد انتهاء العزاء..جلسنا أنا وعمر عند منتصف الليل فى انتظار اللوري الذى يعيدنا الى كريمة..كانت الجلسة فى ذلك الظلام الدامس والصمت المطبق والمساحات الجرداء والبيوت المهدمة والسوقي المحطمة ذلك الصمت الرهيب الذى اعلن وفاة الشمالية بل قل وفاة السودان نفسه ,لا تنسوا أننا نعيش فى ديماجوجيةالمهدى "الديموقراطية الفاسدة" والمهددة بالزوال فى أي لحظة لولا الجهود الجبارة للسيد محمد عثمان الميرغنى وتضميه لجراح السودانيين فى الشمال والجنوب وفى الشرق والغرب..السيد محمد عثمان الميرغنى من أنبل السياسيين فى السودان أعفهم يدا ولسانا وهو رجل متواضع لا يتكالب على المناصب ولا يحب الجعجعة من غير طحين وهو رمز روحي سوداني حقيقي ..عمل المهدى بكل قواه على إجهاض كل إنجازات* هذا الرجل وتهميشها ولذلك تنبات بزوال الديموقراطية المصابة بالإيدز ..وفعلا صدق حدثي وبعد عام واحد جاءت الطامة الكبرى

*****************

مبادرة السلام السودانية والمؤتمر القومي الدستوريالصلح بين الفور والعرب فى غرب السودان الدعم المادي والمعنوي للقوات المسلحة فى تحرير الكرمك وقيسان تجاوز كارثة الفيضانات فى الشمال نتيجة للدعم المؤثر من كل الدول العربية الشقيقة على رأسها مصر*

******************

الجد عبد الكريم"إن جدي كان كشجرة السيال حادة الأشواك صغيرة الأوراق ..تصارع الموت لأنها لا تسرف في الحياة" الطيب صالح(موسم الهجرة إلى الشمال)يبدو أن الحديث عن الجدة الحرم قد طغى على شخصية أخري أسطورية تقيم في البلد"مورا"..انه الجد عبد الكريم اصغر أعمام أبى كان في الخمسينات يقيم في الخرطوم ومن أوائل المثقفين ،على ما يبدو كان في الجبهة المعادية للاستعمار والتي تطورت لتصبح الحزب الشيوعي السوداني لاحقا...لسبب ما ترك الخرطوم منذ الستينات بعد الاستقلال وجاء ليدفن نفسه حيا بين رمال البلد..كان مسكون بهاجس المخابرات وان جهة معادية تطارده ثم توهم شئ اسماه "أيوكأ" يردد هذه الكلمة دائما فى حديثه..وقد أحزنني أن يوجد إنسان بهذا الوعي العالمي يستطيع أن يحلل لك اقتصاد بوليفيا والتحولات الديموقراطية فى غرب أفريقيا ويعيش هنا على طريقة مصطفى سعيد فى موسم الهجرة إلى الشمال فى بيت آيل إلى السقوط ..كالنسر وحيدا..هذا الفكر الجبار المدفون فى الرمال ..يدل على تفاهة الحياة وقد يكون جدي قد استقرأ ما سيؤل له العالم اليوم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي..عندما نزلت البلد 1988 وجدته لا يزال هناك بقامته الفارعة التىتشبه أشجار النخيل وعينيه اللتان تلمعان ذكاءا..كان يشبهني كثيرا..ويرجع له الفضل فى الوعى الذي اتمتع به ألان.. جدي لم يتزوج حتى لا يدخل أطفال إلى هذا العالم التعس ويعيش وحيدا ولا يطلب شيء من أحد.. الإنسان الوحيد الذي ينال احترامه هو أمي..كان يفرح لزياراتنا للبلد..أنا اكتب هذه التداعيات فى اليمن ولا ادرى عن أخباره شئ منذ فراقنا البعيد وكان قد طلب منى شئ نسيته جعلني نادما حتى الآن وهو العفيف الذي لا يطلب أحد..طلب منى أن أرسل له غطاء "بطانية تقيه زمهرير ليلى يناير الباردة فى مناخ الصحراء القاسي,أرجو أن أتدارك هذا الأمر لاحقاأحيطكم علما بان كل التحليلات الجميلة والمنطقية التي كان يتحفنا بها ونحن صغار قد أضحت ماثلة الآن وواقع بشع بعد أن سيطر التيار اليميني الذي غذته أمريكا فى الحرب الباردة على مقاليد الأمور فى البلاد وكان يسميهم جماعة "أب زيد"..وقد حفزني ما قاله جدي وتدهور الأحوال فى الشمال وتدمير الفيضان للقرى والمدن عام 1988 على أن واترك السودان لاجد مكان لاقف عليه لاحرك العالم كما قال جاليلو

****************

مدينة نوري التي ذرتها فىرحلة من ثلاث أشخاص أنا ومدير المدرسة حسن عبد القادر والأستاذ احمد تاتاى..كان منظر الناس بين الخرائب و ".ربيع الدنيا.."الجميلة التي تمر دائما أمام المدرسة الصناعية وهوتمارس حب الأفلاك الذىيتخذ الحبيب فيه حولك مدار" لا قدرت اقرب من ضراك ولا قدرت لفراقك اصل"كما قال مطربنا العظيم عثمان حسين كل هذا الخراب يبعث على الحزن والأسى..أنها جمهورية العاصمة المثلثة التي ذكرها المفكر العظيم منصور خالد..لا تأبه للأقاليم ولا تعرف شيئا اسمه التنمية لذلك ستظل الشمالية دائما كم هي رغم وجود أبناءها فى ارفع المناصب داخل وخارج السودانفى كريمة لاحظت مشروع الكهرباء الألماني وهو لفتة إنسانية كريمة جعلتني اشعر بالتقدير للألمان وذلك للحس الإنساني الذي جعلهم يأتون إلى بلد أفريقي ذو حكومات عاجزة وعاطلة عن كل شئ ليخرجو الناس من الظلمات إلي النور ولا يسعك إلا أن تحترم منظر المهندسين الألمان وقد لوحتهم شمس بلادي المحرقة وهم يعملون بجد ونشاط والابتسامة الطيبة لا تفارق وجوههم..يكرمهم التجار البيبسى كولا والمشروبات الباردة ويحاولون إيجاد جسور من التواصل مع المواطنين من لغة عربية مكسرة بالطريقة الشايقية مع قليل من الإنجليزية بلكنة ألمانية محببة ,كتبت آنذاك قصة "أنشودة الجدة كارين"وهى من ضمن المجموعة القصصية كل ألوان الظلام التي أصدرتها فى اليمن عام1999

************

يا نسمة يا جاية من الوطن

بتقولى لى ايام زمان ما برجعن

السبت، 21 يونيو 2008

لاشيء يعدل الوطن





فى عام1970 عدنا من لبنان حيث كان أبى الذي تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت..بعيني طفل كنت أتتذكر معالم مدينتنا عطبره,حي الداخلة الذي نقيم فيه سألت عن أصدقائي و وصديقاتي تفرقوا ومن مات مات،سهام صديقة الطفولة ماتت سقطت من با ص الدامر كعادة الأولاد الشوطين التعلق بمؤخرة البص لازلت اذكر شعرها الذهبي وملامحها الغجرية,على ود فرحين هكذا نسمى أصدقاء الطفولة بأمهاتهم،غرق في النيل،كان من اعز أصدقائي هكذا كانت الحياة في منظوري الطفولى رحيل دائم من المنبع إلى المصب بين محطتين يمتد عمر الإنسانالأمر الأكبر والأجمل هذا العام كان زواج عمى حسين الذي كان يعمل محاسبا في مستشفى عطبره ولكم إن لا تصدقو مدى حب السودانيين للفرح أنذراك لمجرد زواج موظف بسيط مثل عمى حسين ..انتشرت إرهاصات الفرح وعمت كل الأهل والأصدقاء في المدينة واصبح البيت خلية نحل،تم حجز عربة قطار كاملة..لان الزواج سيمتد من المدينة ألي بلدتنا في الشمال مورا..التي هاجر منها جدي احمد الأمين كهجرة النخيل وكان النزوح ألي مدن النخيل بعد ظهور مرفق السكة حديد وسودنه الخدمة المدنية التي استوعبت كل هجرات الشمال...إلى ذلك الوقت من السبعينات كانت الهجرة معقولة،كانت الأرياف عامرة بالخضرة والماء والوجه الحسن دعونا نعود للهجرة العكسية لحصاة التمر التي أمثلها أنا ورحلة العودة للبحث عن الجذور عبر كرنفال الفرح الذي يجسده زواج عمى حسين الطيب الذي اجله كثيرافي يوم السفر تقاطر الناس من كل حدب وصوب الجدود والاعمام والعمات وامتلأت عربة القطار عن اخرها وسط أهازيج الفرح وضرب الدفوف،تم إلحاق العربة بقطار كريمة الذي يسافر شمالا إلي مدينة كريمة.بدأت الرحلة وأنا أجلس عند النافذة واشاهد المحطات تتوالى ومعالم الخضرة وحقول القمح تمتد كالبساط وأشجار النخيل تقف في جلال علي مد البصر .. كانت الرحلة طويلة وجميلة إلي مدينتنا كريمة. ممن هناك تم توزيع الناس في عربات بد فورد نيسان السودان .. كم تم توزيع الباقين علي الباخرة النيلية . كانت هناك العديد من البواخر التي تمخر الماء بين دنقلا وكريمة لها أسماء جميلة "عطارد ـ كربكان ـ الزهراء ـ الجلاء " كان نصيبنا نحن والأسرة أن نسافر بميكروباس فورد إلي مورا .. بدأت الرحلة ليلا وانطلقنا في بحورمن الرمال علي اليمين وحقول لا نهائية من القمح علي اليسار ... وصلنا بيت جدي الكبير المتعدد الحجرات .. كانت "البلد" كما نطلق عليها مليئة بالناس والحياة .كما أن زواج عمي ألبسنا حلة من الفرح المقيم ، تم توزيع المدعوين علي كل بيوت البلدة حيث فرش الديوان بالملايات الزاهية وفرشت الارض بالرمال النظيفة وعلي ما اذكر استمر العرس أربعين يوما بكل طقوسه الكثيرة .آنذاك كما أخبرتكم نحن شعب له قدرة غير عادية علي صناعة الفرح .. كانت جرار من المشهيات الروحية البلدية تقبع مدفونة إلى منصفها في أرض السقائف الباردة وهي جزء أساسي من طقوس العرس .. الناس بقيت معنا وهي خمور مصنوعة من التمر والذرة ولها أسماء عدة "الدكاي ، البقنية، والشربوت"أما الطرب فمن النوع الشعبي والعزف علي آلة الطنبور مع كورس والتصفيق بالأيادي وإيقاع خاص بمنطقة الشايقية سمي الدليب وآخر يسمي الشتم .. والرقص مختلط حيث يقف الرجال صفوف ويضربون بأرجلهم إيقاعات اشبه بألدبكة اللبنانية وترقص النساء رقصة الوزين وهي تشبه عملية الغزل بين الطيور ..وما أشبه أهلي الطيبون بالطيور... حقول القمحأكثر ما أسعدني آنذاك الخضرة الممتدة من النيل حتى تخوم القرية حقول القمح والبرسيم وأشجار النخيل والمانجو والليمون.. كانت المزارع تسمي "التحتانية" لأنها جهة النيل .المنظر الثاني هو الرمال التي تجسد الزحف الصحراوي ، تلك الرمال العنيدة التي تمطتي ظهور البيوت في رغبة وقحة لدفن القرية .. من أجمل السيموفنية في اذني عند الغروب ثغاء البهائم ونهيق الحمير وصوت طلمبة الماء الذي يتداعي من بعد ( وق ـ دق ـدق ...دق" أما سيموفنية الصباح فتبدأ بصياح الديك ونداءات أهل القرية ، انهم اهل القري ينامون باكراً ويستيقظون باكرا قبل شروق الشمس . كما كانت تفعل جدتي الحرم ..هذه الجدة الحديث عنها يطول ومن الذكريات مكان أخر سيموفنية كانت صوت الطواحين في سوق البلدة الصغير وهي تطحن القمح السوداني الذي نزرعه في حقولنا "تك.. تك... تك.." هذا القمح الطاهر الذي تنتجه حقولنا تقوم النساء بعجنه وإنضاجه علي نار "الدوكة" وهي قطعة مستديرة من الفولاذ الصلب ،سوداء بفعل السخام تجلس علي ثلاثة اسافي "إدايات " ويوضع الوقود من جريد وحراشف النخيل (الكروق) ونحن نصنع نوعين من أقراص الطحين احدهما سميكة في الفطور والأخرى رقيقة مثل القماش الرحلة الثانية إلي الجذورخيمة السعودية دف ما بتدفيكلبن اليهودية بلدك ينسيكقمحا جاك من أمريكاخازوق ركب فيكـــا ما بكفيك غير خير بواديك• مضت عشر سنوات علي الرحلة الأولى بحثا عن الجذور...نحن الآن في عام 1980م في العطلة الصيفية ،أغسطس .. هذا العام تقرر أن تنزل الوالدة إلى البلد للأشراف علي عملية حصاد التمر (حش التمر) وكنت أنا مرافق ومعي خالد ابن خالتي والذي أراه لاول مرة ، ذلك لأنهم كانوا في غرب السودان ـ لان والده يعمل في السكة حديد .. خالد أصبح من أعز أصدقائي وأقرب ا نسان إلى قلبي ..وذلك للرحلة الجميلة بالقطار ولكن هذه المرة تقدم بنا العمر ولم نعد أطفال .. اختبرت هذا العام لدخول الجامعة..بدأ الترهل يدب في مرفق السكة حديد وأصبح هناك قطار واحد في الأسبوع يزحف كالسلحفاة عبر محطات ، كانت مظاهر الجدب واختفاء حقول القمح التدريجي من كل المناطق التي لا زالت ذكراها الخضراء عالقة في ذاكرتي الطفولية ,وصلنا مدينة كريمة وركبنا سيارة إلي مورا ثم إلي كوري بلد أمي .. هناك يبدو أن الرمال انتصرت أخيرا . كانت البيوت شبه خالية فقد تهدم بيت جدي الذي كنت أعتز به كثيرا ، تساقطت معظم حجراته وبدت البلدة خالية وكئيبة، تغيرت المعالم والعادات وهاجر معظم الشباب وبقي الرعيل الأول من الأجداد يشرف علي أشجار النخيل، اختفت حقول القمح واختفت الطواحين وظهرت الأفران والخبز الإفرنجي الفاخر الناصع البياض كغرف المستشفيات .. وظهرت المعونة الأمريكية وتلوثت بلادنا بالدقيق الأمريكي{Double Zero}وبدأ السحت يغزوا أجسادنا ودب فيها الوهن ..أخذت تسير من سئ الي أسوأ . جلسنا في البلد خمسة عشر يوما تقريباً .قمت مع أمي وابن خالتي بالاشتراك في عملية حصاد التمر ووضعه في جوالات وجاء كبار التجار لشراء التمر بثمن بخس ..ثم عدنا مرة أخري إلي كريمة ومنها بالقطار إلي عطبرة .. انتهت رحلتي الثانية إلي الشمال وأنطبع في ذاكرتي شئ واحد .. أن هناك أشياء بدأت تموت ببط شديد ، شئ أسمه الريف السوداني الغني بالناس و المشاعر الفياضة وإن الزحف والهجرة إلي مدن النخيل أتخذ شكل وبائي ... وكما عبر شاعر العامية محمد الحسن سالم الحميد ( الحزب الشيوعي السوداني ) من أبناء الشمالية بكلماته البسيطة عن الملعونة الأمريكية {وما هي إلا إرهاصات للجوع الذي جاء لاحقاً ودخل السودان من النفق المظلمThe American Disgusting Policy"عن هذه الانهيارات الثمانينية والصعود المذهبي الأصولي، كتبت محاولتي الروائية الأولي ،أبناء محمد أحمد والتى غيرت اسمها لاحقا إلى "الساقية" وقمت بطباعتها في اليمن سنة2005 التي حاولت تغطية فترة الصعود (1969 ـ1977)ثم الانهيار (1978 ـ1985) ونقطة التحول كانت المصالحة الوطنية التي أتت بالقوى الرجعية (الجبهة الوطنية) برموزها والمبتذلة إلي ثورة مايو الاشتراكية و أجهضتها

لا شيء يعدل الوطن



تيس عبد المعروف

كنا نراه يجوس في طرقات مدينتنا،يمشى بخيلاء تسبقه رائحته النتنة في كل مكان،تلك الرائحة القبيحة التي يمكنها أن تسقط صقرا من ارتفاع عشرة ألف قدم فوق سطح البحركان لا يتوانى في الإعلان عن فحولته أمام الآخرين بإصدار تلك الأصوات العالية التي يسمعها كل سكان الحارة..كان يسبب لنا فزع رهيب نحن الأطفال،متخصص في مطاردة الأطفال خاصة الإناث ولا يتركهن حتى يلوثهن ببوله النتن..انه أحد معالم مدينتنا في تلك الفترة في السبعينات..انه تيس عبد المعروف سمعنا نحن الصغار أن عبد المعروف رجل من ولياء الله الصالحين فكان لابد لهذا التيس الضخم الجثة أن يستمد قدسيته،من ذلك الولي..يدخل بيوت المواطنين يعيث فيها فسادا..يلتهم كل شيء ولا أحد يستطيع أن يزجره حتى لا تذهب البركة من البيت..أحيانا يغزو السوق ويتناول الحبوب في الفراشات..هذا التيس يتجول في كل طرقات المدينة يعاشر كل الماعز ولا يجد من يقف في طريقه حتى جاء ذلك اليوم المشهود وكنت قد غبت عن المدينة طويلا بحكم عمل الوالد في وزارة التربية وتنتقل عبر مدن السودان المختلفة أخبرني صديقي عوض(طقش) في يوم كانت مباراة حاسمة لفرقة كرة القدم (نادى الوادي)الذي يشجعه أبناء حارتنا أدت النتيجة إلى هزيمة فرقتنا وسقط إلى درجة الثانية،خرجت الجماهير الغاضبة تندب حظها العاثر وكان تيس عبد المعروف..الذي دب فيه الكبر لا يعرف ذلك،اندفع خارجا من زقاق يسير بخيلائه المعهود أمام الشباب اللذين لم يعاصرو الأسطورة ونشأوا في ثورة مايو الاشتراكية،ما كان منهم إلا أن اندفعوا يرجموه بالحجارة ويضربوه بالهراوات والسيخ حتى اسلم الروح وسحبو ا جثته بالحبال والقوه في مزبلة المدينة مع القوى الرجعية المرتبطة بالاستعمار وانتهت أسطورة التيس الذي لا يقهر ،التيس المقدس..تيس عبد المعروف,الذي قضى عليه حظه العاثر ولم يمتد إلي عصرنا هذا الذي أصبحت فيه التيوس من أرباب المجالس

أبو جنزير

في السبعينات الذهبية غزت روايات الجيب مدينتنا وتكالب الشباب في ذلك والوقت على قراءتها وعلى ضوء الأجواء المرعبة البوليسية لقصص أرسين لوبين للكاتب الفرنسي موريس لبلان انتشرت أسطورة مرعبة فى المدينة..أبو جنزير هذا اللص الخطير الذي يضرب ضحاياه ليلا فى مخادع نومهم وينهب أموالهم ويوزعها على الفقراء..سببت هذه الأسطورة لنا نحن الصغار الرعب جعلتنا نلجأ للنوم مبكرين..مع مرور الزمن انحسرت الأسطورة وتجسدت فى شكل مواطن عادى يعمل فى السكة حديد اسمه"محمد عوارة" هذا الذى كان يعيش وحيدا ويقال انه هرب يوما بالسفينة من ميناء بور تسودان الى الهند وتعلم فنون السحر حيث اصبح كلما اعتقلته الشرطة يتسرب كالهواء من الزنزانة ويعود لارتكاب جرائمه بطريقته المفضلة الإجهاز على الضحية بجنزير الدراجة وسلبهاعتقد انها كانت أكاذيب لا تسعها مخيلتنا الصغيرة.إلا إن هذا الرجل الذى تمخضت عنه الأسطورة قام بدور بطولي وطنى جعل الرئيس نميرى يكافئه عليه وذلك عندما شب حريق مدمر فى مخازن السكة حديد استطاع هذا الرجل أن ينقذ ماكينة غالية الثمن كانت ستكلف الدولة كثيرا أصيب جسده بحروق ظلت كالوسام تغطى جسده المشوه ثم بعد ذلك سنين اصبح يتجول فى المدينة بدراجته الهوائية ويمازح الناس فى الطرقات والأسواق مرددا بصوته الجهوري- حذراك من ثلاث الله والكهرباء ونميرى!!

صافرة السكة حديد

عندما يأتي زائر غريب الى مدينتنا لا بد إن يصاب بالذعر ويهب من نومه صباحا على صوت صافرة داويه تجتاح المدينة لكن سرعان ما يعرف من مواطنينا.انها صافرة العمل وليست صافرة إنذار بغارة أو كارثة فقط عليه الخروج إلى شارع ليشاهد ارتال الدرجات الهوائية التى يركبها العمال تنساب من كل حدب وصوب نحو ورش عمل السكة حديد،الموظفين الى المكاتب والطلاب الى المدارس والنساء الى الأسواق يجلبن الطعام واللحوم لاعداد وجبة الفطور والغداءهكذا كانت مدينتنا فى الستينات والسبعينات,كانت هناك صافرة متميزة تحدث آخر كل شهر فى الساعة العاشرة تماما تهز وجداننا ونحن الاطفال وتسعدنا..انها صافرة الماهية "المرتب".يوم صرف المرتب اسعد يوم فى مدينتنا ياتى الاباء والاخوان محملين بما لذ وطاب ومن الهدايا التى تسعد الأطفالسوق الزيارةفي يوم صرف المرتبات عصرا وأيام الجمعة ينتعش سوق الزيارة ،هذا سوق سمى كذلك لان من العادات الخاصة جدا بمدينتنا وبعض المدن السودانية الأخرى زيارة المرضى بصورة منتظمة في المستشفى الحكومي الكبير المشيد منذ أيام الإنجليز نجم عن ذلك سوق مؤقت يفرش فيه البائعين كل ما يخطر في بال من أشياء تلزم الأطفال والنساء والرجال..ملابس وعطور أواني منزلية،لعب وحلويات..هذا السوق الذي يمتد أمام المستشفى يعتبر ظاهرة فريدة في المدينة ،تجد فيه كل الناس وكل الأخبار..الناس في أبهى حلة وهم يعودون مرضاهم،الشيء الذي يجعل المريض يحس في تلك اللحظة الحرجة للانتقال إلى جوار ربه انه محبوب وانه عزيز على كل الناس ولا زال هناك فسحة من الوقت للتسامح ..يجد كل العزاء في الوجوه الطيبة التي تحيط به من كل جانب،نحن السودانيين في الحقيقة اناس وجدا نيون نعيش في عالم المعاني.زكما نه عند زيارة المرضى تنتهي الخصومات وتعقد الصفقات التجارية وتتولد قصص الحب العابر بشقيه العذري والحسي لا فرق،انه طبيعة إنسانية كما يقول ما يكل جاكسون في أغنيته الشهيرة human nature نحن في مدينتنا لا نهين النساء ولا نستهجن الحب ولا نحاصر الناس بسلوكياتهم الخاصة كل إنسان شريف ما لم تصل قضيته دوائر الشرطة والمحاكم اذا كنا نبحث عن التميز،مدينتنا تحيا بالديموقراطية وتموت بموتها ،نحن لا نتبع الظن أو نجرم الآخرين.. لا ازدراء لا تحقير هذه الحرية تعطى كل إنسان في المدينة طابع الانجليز

جانوار

من معالم الحضارية في مدينتنا والتي نعتز بها كثيرا..السينما توجد بالمدينة ثلاثة دور للسينما، الوطنية ، الجمهورية ، الجديدة ولكل سينما نكهتها الخاصة وجمهورها .. إن للسينما في مدينتنا شعبيتها ، يدخلها الكبار والصغار النساء والرجال. المثقفون والمنحرفون .. أنا شخصيا أجد نفسي مفتونا بهذه الساحرة وذلك لان أبي كان يأخذنا ونحن صغار الي السينما .. أضحت تجري في دمائنا .. كانت في السبعينات موجة الأفلام الهندية وقدرة السينما الهندية غير العادية علي الإبهار جعلت من الأفلام الهندية اكثر شعبية واعتقد أن فلم( جانور )و (تسري منزل) و (من اجل أبنائي) من أكثر الأفلام التي حققت إيراد في ذلك الزمن .. لقد انبهر الناس بجمال الطبيعة وجمال الممثلين والممثلات الهنود فكان حلم الشباب في عمر أخي الأكبر السفر الي الهند والتزوج من هندية كما أصبحت الأغاني الهندية تصدع في محلات لبيع المشروبات والسيارات .. هذا حال الأفلام الهندية ، النوع الأخر المفضل من الأفلام تعرضه السينما الجمهورية بحكم موقعها حيث سكن الأحياء حولها مواطنين من أبناء جنوب السودان وجبال النوبة وهؤلاء يحبون أفلام رعاة البقر التي تترك فيهم أثر رهيب وبحكم أنهم يعملون خياطين في السوق ، قاموا بتفصيل ملابسهم علي طريقة أفلام دجانقوا وسارتانا.. أما السينما الجديدة فتوجد في حي السودنة الراقي لذلك تمتاز أفلامها بالنزعة الرومانسية ، أفلام إنجليزية ، فرنسية ، وعربية ويدخلها المثقفون وأصحاب الشأن .تعتبر مدينتا أول من حاول أن ينهض بصناعة السينما في السودان ، أول فلم قام بإنتاجه الرجل الموهوب الرشيد مهدي أخرجه ملاسي ، وكان اسمه آمال وأحلام الشيء الذي جعلنا نحلم دائما بان عطبرة ستكون يوما ما هوليود السودان وحتي الآن يحصد أبنائها الميداليات الذهبية والفضية في الدورات المدرسية الثقافية في مجال المسرح والتمثيل إن الوعي الحضاري الذي تجسده مدينتنا واكتسبته من تواجد الانجليز قديما جعل المواطنين يعتبرون السينما أداة للتثقيف وليس للتسلية وإزجاء الفراغ كما أنها ليست عيبا رفعت الحس التذوقي للإنسان ، أسوق لكم هذه القصة لتدل علي ذلك .. في أواخر الثمانينات التقيت بالمواطن عيسي هبن وهو من أبناء قبيلة الهدندوه ، ويعمل حلاب ابقار في مزرعة ألبان عطبرة جلست مع هذا الرجل الذي يشبه الهنود الحمر أخبرني أنه يحب أفلام رعاة البقر وجت إن مستواه الثقافي عالي رغم انه أمي لا يعرف القراءة والكتابة وذلك بفضل دخوله المستمر الي السينما وتعرفه علي العالم الخارجي وقد قاده ذلك أن يربي أولاده وبناته بطريقة لبرالية خالية من مظاهر التخلف والاستبداد رغم بساطة الحياة التي يعيشها في خيام حول المدينة .كان حلمي يوما ان ادرس إخراج سينمائي في مصر إلا ان الظروف حالت دون ذلك اتجهت أثناء دراستي في كلية العلوم في نشاط سينمائي ( نادي السينما) في الكلية وتعرفت من خلاله علي أكثر القائمين في هذا المجال السحري ( السينما) منهم من اثر علي إيجابا ولا زلت اعتز بمعرفتي بهم ، الأستاذ هاشم صديق الأستاذ عبد الرحمن نجدي والأستاذ وجدي كامل ومنهم من اثر علي سلبا مثل جاد الله جبارة وإبراهيم شداد وايمان ويل (قسم الإنتاج السينمائي) ونكتفي بهذا القدر من الآلام مع الجميلة والمستحيلة السينما ومشوارها الصعب

*****

المولد

:من المناسبات السعيدة التي ننتظرها بشوق ولهفة مولد الرسولحيث تنصب الصيوانات الجميلة في ساحة المولد أمام الجامع الكبير في السوق وتعلق انوار الزينة كأنما خيمة النجوم قد سقطت علي الأرض وتقام محلات بيع الحلوى التي نحبها كثيرا : تأتي الطرق الصوفية والتي لها أكبر الاثر في تشكيل المجتمع السوداني من أنحاء البلاد تضرب طبولها وصنجاتها فتهز قلوبنا الصغيرة هزا ويستمر الاحتفال شهرا كاملا من الحلوى والليالي الروحية في عرس التاريخ مولد الرسول الكريم (وليلنا طهر بلا راح سكاري )

* ***

صرخة ميتا :

قصة قصيرة من وحي التداخل الديني والتشابك الإنساني في مدينتنا وقد كتبتها في شكل قصة..من ضمن المجموعة القصصية الاولى تحت اسم "كل ألوان الظلام"ميتا رجل من معالم مدينتنا عطبره وقد قابلت صديقي حمزة وهو زميل دراسة عبر مراحل التعليم في عطبره وفى جامعة الخرطوم ويكتب شعر باللغة الإنجليزية..كنا نجلس عام 1994 في حديقة الشعب بالحديدة نسترجع الذكريات وتذكرنا ميتا أخبرني حمزة ان له قصيدة باسم صرخة ميتا وتحداني ان اعمل قصة باسم صرخة ميتا حتى نخلد تلك الصرخة الداوية التي كان يطلقها عند الغروب وهو في نشوة السكر شفى منطقة الحلفا عن نهر عطبرهأنا إعطائي لشخصية ميتا بعد ميتا فيزيقى وتشبيهه بالمسيح الذي جاء يخلص الناس من آثامهم ..تجعل كل مسيحي من أصدقائنا في السودان يحس ان هناك مسلم يقدره ويدافع عنهم في زمن تشنجت فيه الأشياء لم يعد هناك فرق بين الحقيقة والابتذال ونهدى القصة الة الأستاذ الجليل وهيب جورج فأسرته الذي ترك عطبره وهاجر إلى بريطانيا والى جمال الياس دولتلى زميلي في الجامعة الذي هاجرت جل معظم أفرادها الى كندا وأمريكا وبريطانيا والأخ فرانسيس الذي هاجر الى استرالياالمجد لله في الأعالي وعلى الناس المسرة وعلى الارض السلام

هجرة النخيل"

حتى هذه اللحظة إني العن الزمن الذي اغتال طفولتنا السعيدة.. كل هذه الكتابات ماهى إلا حنين إلي ماضي لن يعود أبداهجرة النخيلمن وحي قصيدة باللغة الانجليزية لشاعر مدينتنا وفيلسوفها حمزة محمد الحسن..اسم القصيدة the green eye ويرمز بها الى حصاة التمر او نواة التمر فى مدينة عطبره التى تقع عند ملتقى نهر عطبره بنهرالنيل عند حافة وادى العميق الذى يمتد من الشرق الى الغرب,تقف اشجار النخيل الجليلة فى شموخ فى منطقة الحلفا وهى محملة بالتمور وتاتى الرياح اللواقح وتسقط هذه الاشجار ثمارها في مجري النهر المتمرد ، يأتي هذا النهر المجنون مندفعا من مرتفعات اريتريا ، يدفع الزبد أمامه ، ويحمل هذه الاجنة ويقذفها في رحم النيل الهادي القادم من الجنوب في منطقة المقرن عند الجسر الحديدي القديم يحمل النيل البذور "the Green Eye" ويتجه شمالا فتجرفها الامواج إلي كل من ضفتي النهر وتنمو هذه النوي في مكانها الجديد وتصبح افراد من غابات النخيل التي يعج بها شمالنا الحبيب وتتساال.. هل هذا موطن الاجداد .. وهجرة أسماك السالمون العكسية .. أم أنها سنة الحياة المندفعة من الشرق إلي الغرب كنهر مدينتنا المتمرد .. بين محطتين الميلاد والموت.قد سألت البحر / النخيل يوماًهل أنا يا بحر/ نخسيل منك ؟أم صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكضحكت أمواجه / أوراقه مني وقالت لست ادري !حكاية النخيل هذه الشجرة المياركة ، شبهها الله في محكم تنزيلة ب"لا اله إلا الله " ( الم تري كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) صدق الله العظمعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :أن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم أفتحدثوني ما هي ؟ فوقع الناس من شجر البوادي قال عبد الله وقع في نفسي أنها النخلة فأستحيت ثم قالوا حدثنا يا رسول الله ، قال هي النخلة " .. وفي رواية أخري "باب الحياة في العلم " ... بعد أن ساق الحديث وفيه زيادة.فحدثت أبي بما وقع في نفس فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن اكون كذا وكذا يضرب المثل ذكر في الاثر عندما خلق الله حواء من ضلع ادم بقي جزء خلق الله منه النخلة ، وأصبحت النخلة عمت البشر.علميا يمتاز هذا الشجر ( النخيل ) بانه مكون من ذكر وأنثي ويسمي ثنائي الجنس احادي المسكن، والتمر غني بالمعادن ويعتبر وجبة غذائية. اقتصاديا كل أجزاء هذه الشجرة صالحة لأستخدام البشر . الاوراق المخلفة تصنع منها الحصائر والسلال ، الالياف تصنع منها الحبال والحراشف تستخدم كوقود ، والجزع سقف للمنازل والعرجون علف للدواب ووقود أيضا .معنويا للحلم بالنخيل يقذف بالحجارة فيلقي تمراً.•

الجمعة، 20 يونيو 2008

لاشيء يعدل الوطن


سيرة مدينة
عطبره..مدينة النهر المتمرد





يشبه الشاعر الراحل نزار قباني المدن بالنساء ولكن مدينتنا رجل فحل!!..عطبره،يسمونها في السودان عاصمة الحديد والنار،تقع في الشمال الأوسط للسودان عند ملتقى نهر النيل القادم من الجنوب بنهر عطبره القادم من الشرق،النهر المتمرد الذي يندفع من جبال إرتريا في عنفوان جنوني ويأتي دائما فجأة كالأقدار،يحمل في طريقه الدمار والشرور ويلتق بالنيل في رحلته الهادئة ويرحلا معا شمالا إلى مصر المؤمنة..
استوطن الإنجليز مدينتنا نسبة لوجود مرفق السكة الحديد الضخم من حيث الورش وخطوط السكة حديد التي تتشعب داخل أحياء المدينة لذلك تجد أن القطار يحمل اكثر من معنى في حياتنا ويتغن به مطربين المدينة في العديد من أغانيهم"قطاروا حل يا ناس قطارو حل ،ترك لعمر الآلام والمزلة..الزول مسافر ودعتك الله" وفى أغنية أخري "قطار الشوق بتين ترحل تودينا نزور بلدا حنان اهلا وترسى هناك ترسينا..نسالم عطبره الحلوة"
كما إن نمط الحياة الإنجليزي الطابع،الهادئ واحترام قيمة العمل سائدة بين سكان المدينة اللذين جلهم من العمال..تقسم محطة السكة الحديد الضخمة المدينة إلى جزئين كبيرين،تنتشر المنازل الحكومية المبنية على الطراز البيرطانى في كل أنحاء المدينة،كما يوجد كبرى الحرية الذي يمر فوق محطة السكة حديد ويربط طرفي المدينة ويكسب المدينة طابع حديث..اجملا إن مدينتنا هي قطعة من بريطانيا في قلب أفريقيا.تجد اللمسات الإنجليزية في كل مكان وفى كل إنسان رغم رحيلهم عن السودان منذ أمد بعيد 1956 وتدهور مرفق السكة حديد وكل مظاهر الحياة المعاصرة التي اكتسبناها منهم في ظل الحكومات الوطنية المتعاقبة.لم تتم إضافات نوعية أو كمية لهذا المرفق الحساس إلا في عهد الفريق عبود 1958-1964 وسبعينيات الرئيس نميرى الذهبية
يمتد حتى السودنة الراقي في الجزء الجنوبي الغربي من المدينة وتظلله أشجار اللبخ_ficus sangalasis بكثافة ويمتد معه شملا حي الداخلة الذي يسكنه العمال وجل بيوته مبنية من الطين اللازب وتنتشر في أشجار النيم-azadrikhta indica وفى بيت من هذه البيوت الطينية الذي بناه جدي احمد الأمين وكان يعمل خفير في السكة حديد كان مولدي 1961..في هذا الحي الفقير والغنى بأهله الطيبين أما بقية الأحياء التي تقع شرق محطة السكة حديد فهي كثيرة وبمسميات مختلفة طبقا للمناطق في الشمال التي جاء منها قاطنوها،الحصايا ..امبكول،الموردة الامتداد الشرقي ،الامتداد الشمالي ،حي المطار..الفكي مدني
ديموقرافية المدينة تتركز على القبائل الرئيسة الثلاث في شمال السودان،الدناقلة والشايقية والجعليين واقليات أخرى مثل الهد ندوة والزبيدية من شرق السودان والنوبة من غرب السودان والدينكا والنوير من الجنوب يوجد أقباط مصريين وبعض التجار من اليمن وينتشر نسيج ديني بين المسلمين والمسيحيين فالمدينة تجسد الوحدة الوطنية تنتشر فيها المساجد والكنائس والمقابر ذات الصلبان والمقابر العادية..لقد جعل هذا التداخل الفريد بين القبائل والأعراق مع التواجد المكثف للإنجليز في الماضي إلى إظهار روح أخلاقية متميزة لابناء عطبره تبهر كل زائر يأتي إلى المدينة..سكان هذه المدينة قد كتب الله لهم برآة من النفاق،تلك السلعة الرائجة في المجتمعات المتخلفة،لذلك كان للمدينة دورها النضالي والمستمر عبر العصور"عطبره رأس السهم في طليعة التغيير والحرية"..يعيش الناس في مدينتنا مبدأ الحرية لكل فرد وفقا للحديث القدسي "يا عيسى عظ نفسك إن اتعظت فعظ الناس أو استحى منى"،فهم أناس أسوياء يعيشون في مرحلة متقدمة .."مدينة الإنسان" التي لم تأتى بعد..عذرا عزيزي القارىءآ سأتوقف هنا لأني اعتقد أن الوقت المناسب للكتابة فبه عن المدينة الساحرة التى تقع عند مجمع البحرين لم يأتي بعد
**********
الغجر..أول دروس الحرية
عندما كنا أطفال في مدينتنا عطبره،كنا نراهم يأتون من الشمال رجال ونساء وأطفال يشبهون الملائكة،نحن نسميهم "الحلب"..يأتون من مصر،يدفعون معهم قطعان من الحمير،عندما يصلوا حارتنا يجلسون تحت أشجار النيم الظليلة،تدور النساء فى البيوت يبعن الأواني المنزلية وأدوات خان الخليلى التي جلبوها معهم من مصر بينما يعمل الرجال فى صناعة المواقد من التنك والصفيح كانو عمال مهرة فى هذه الصنعة لدرجة الإبهار،الغجريات الشابات الجميلات ذوات الجمال والسحر الفاجر يطفن بالمنازل لشراء الملابس القديمة أحيانا توفير متعة عنيفة عابرة لأي رجل تتاح له فرصة الانفراد والتهام هذه الفاكهة البرية المحرمة،بعيدا عن الملل الجنسي المزمن فى المدينة،نساء الغجر يتحلين بالأساور الرخيصة ويضمخن أعينهن بالكحل وايديهن بالوشم..كنا نحن الأطفال نركض خلف نساء الغجر المسنات آلائي يحملن الأواني فى سلة كبيرة على رأسهن،يجلبن الزبائن لبضاعتهن بالصياح بصوت ممطوط يشوبه غنج ودلال قديم ..كنا نردد خلفهن أهزوجة بذيئة
هي يا هي
هي الحلبية
شايلةا قفتا
ماشة حلتا
العقرب قرصتا
فى (..)
كنت انظر إلى الغجر كظاهرة غريبة موسمية بعيني طفل متأمل..لماذا هم هكذا؟!
_ لا يحدهم زمان وليسو بقايا المكان..فى حلة رحيل دائم
بعد تلك السنين وأنا ادرس فى الجامعة ،جئت فى العطلة إلى مدينتنا وكنا نسكن فى منزل حكومي جوار مدرسة البنات الثانوية..كان أبى مدير المدرسة،فى ذلك اليوم شاهدت امرأة غريبة تجلس مع أمي،شابة بيضاء فى غاية الجمال..أيقظت ذاكرتي الطفولية..كانت من الغجر..جمعت لها أمي الطيبة الملابس القديمة،حملت صرة الملابس وظلت ترمقني بشبق جنوني وانصرفت،لسعنى التيار الكهربي المنبعث من عينيها..ترددت لحظة ثم هرولت خلفها..اتجهت نحو أشجار النخيل أمام المدرسة حيث كان يجلس رجل غجري يفترش بطانية وجواره قطيع من الحمير وطفلين يلعبان.. نظرت أليها وهى تبتعد متهادية فى غنج ودلال وعدت احصد الخيبة لأني تأخرت كثيرا استحياء من أمي..وعند الغروب أمرتني أمي بان احمل الموقد القديم الى الحلبي ليقوم بإصلاحه، حملت الموقد حيث يجلس الرجل فى العتمة مع عائلته الصغيرة, كنت اقترب منهما وهما يتلاطفان ويضحكان فى براءة..كانا أشبه بطائرين فى البرية وطفلاهما نائمان,لم اشعر بأي استهجان لذلك ولم أتراجع..اقتربت اكثر واكثر لمحنى الرجل وفلت المرأة ونظر الى وابتسامة مشرقة تغمر وجهه وضعت عنده الموقد وطلبت منه إصلاحه حتى الغد وسأعود صباحا لاخذه
انبرى الرجل قائلا فى لهجة ودودة"لا عليك ستقوم هادية بإحضاره لكم"..أيقظ ذلك الأمل مجددا فى نفسي الأمارة بسوء وقبل أن استدير منصرفا انقض الرجل على زوجته مواصلا لعبة الطبيعة..هكذا كانو يمارسون الحياة دون تكلف وتركتهم سعداء بعد أن.تجدد أملى بالتهام الفاكهة البرية غدا
************
استيقظت فى العاشرة صباحا آخى تعد الإفطار فى الموقد الجديد..خرجت على عجل ونظرت الى مكانهم حيث كانو يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ولم اعثر لهم على اثر
هكذا سكنتن روح الغجر فى التحرر والحرية الى يومنا هذا حيث أصبحت اكره كل أنواع القيود والتسلط التي تفرضها المجتمعات إوز الانفراد المختلين الوعي والشعور من أصحاب الأفكار الهدامة الوافدة الى السودان والعلاقات الإنسانية المشوهة..ما اجمل حياة الغجر..والرحيل الدائم..البساطة وخلوها من تعقيدات المدنية الزائفة..فمن منا لا تسكنه روح الغجر المتمردة؟!!
الغجر الزمن لا يعرف أحدا منهم وانهم ليسو بقايا المكان
النسر المتشرد
11/8/1998

الفلسفة السوداء





دنيا لا يملكها

من يملكها

اغنى اهلوها سادتها الفقراء

العاقل من ياخذ منها ما تعطيه على استيحاء

والجاهل من ظن الاشياء هي الاشياء

الفيتوري