الأربعاء، 10 أغسطس 2011

رواية زهور بابل

زهور بــابــــل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
ظلت يداه ترتعشان وهو يحاول تشريح الضفدعة المصلوبة على اللوح أمامه كان يعلم انه لا بد من فتح بطن هذه الضفدعة والعبث بداخلها حتى يحصل على الدرجات اللازمة للنجاح في امتحان العملي لمادة علم الحيوان ولكن كان لا بد للإنسان أن يقتل مخلوقا ضعيفا كهذا حتى ينجح . كم اهلك طلاب العلوم من ضفادع وحشرات صغيرة منذ أن أنشئت جامعة الخرطوم
لا زالت يداه ترجفان وهو يحفر في قلب الضفدعة الذي كان يخفق تحت جلدها الأملس عبثا حاول أن يمسك بالملقط ويدفع به الجلد ثم يغرس المقص ويبدأ في شق صدرها كان جسده ينصب عرقا ويتجمع في شكل حبيبات على ......... ويتساقط على الأرض بدت خطوات الزمن ثقيلة اخذ صاحبنا يتلفت جهة اليمين وجهة اليسار .
وجد جميع الطلاب منهمكين في التشريح وقد تلوثت أصابعهم بالدماء وأغمض عينيه في يأس وقد امتثلت بالدموع لماذا هو بالذات لا يستطيع ذلك كانت أمه دائما تقول بأنه لا يستطيع أن يقتل نملة كما كان يغمى عليه عندما يذبح خروف العيد هل هذه رقة المشاعر أم انه إنسان غير سوي .
فتح عينيه واخذ ينظر إلى الزجاج الأمامي لمعمل الأحياء ورأى انعكاس شكله في الزجاج عينات زائفتان شعر منكوش وقد التفت خصلاته على شكل مليون علامة استفهام , فيما ظلت عيناه العسليتان تنظران إشفاق إلى شكله في الزجاج ، شعر بان هناك عينان تراقبانه التفت جهة اليسار وجد حنان جارته الطالبة السودانية منهمكة في تشريح الصرصور الذي تحول إلى أشلاء تحت يديها ثم التفت جهة اليمين .. التقت عيناه بالعينين التي كانت تراقبانه .
عينا احمد الطالب السوداني الذي يجلس على يمينه ابتسم له مشجعا حاول حسين العراقي أن يرد الابتسامة بمثلها لكنه عجز تماما ..وكيف يكون ذلك و لازالت ضفدعته سليمة الأعضاء ولازال قلبها ينبض وقد أوشك الزمن الرسمي لامتحان العملي على الانتهاء .
ثم أن هذا الطالب السوداني الذي يراقبه كانت نظراته تحمل معنى أعمق، كان يشعر أن هناك خيوط خفية تشده نحو هذا الطالب وهو لا يدري ما سببها هل لأنه طالب أجنبي وحسين عراقي الجنسية عندما حضر للدراسة في السودان كان يشعر بالاستيحاش ويفضل الجلوس وحيدا يقلب ذكرياته المريرة في العراق ولكنه كان يوقي في مرارة نفسه أن احمد الذي يجلس بجواره الآن إنسان غير عادي طيلة الأربعة الأعوام من الدراسة في فصل واحد وبكلية واحدة وفي مسكن واحد في المدينة الجامعية وفي غرف منفصلة ولم تتجاوز علاقتهما السلام والحديث في الشئون الأكاديمية .كانت تسكنه الفوضى حتى في مظهره...يبدوا كفيلسوف..
كان يعرف أن هناك علاقة حب خفية تربط بين احمد الذي يجلس على يمينه وحنان التي تجلس على يساره ومنذ لحظات كان احمد ينظر في اتجاه حنان وبما أن حسين يجلس بينهما فقد شعر بنظراته التي تمر من خلاله في طريقها إلى حنان .
علا صوت المشرف على الامتحان في القاعة معلنا انتهاء زمن الامتحان وبدا الطلاب الاستعداد للخروج وعلا ضجيج أدوات التشريح المعدنية واخذ الطلاب يعيدونها إلى أماكنها ، نهض في تثاقل و نظر إلى ضفدعته في أسى وقد تقوس فمها كأنها تبتسم له في عرفان لإبقائه على حياتها ،
تحرك خارجا وسط جموع الطلاب وقد امتلأت عيناه بالدموع ،لابد انه سيرسب لا محالة ،لان للتشريح درجات تصل إلى أربعين في المائة من كل الامتحان أو عليه أن يبذل المستحيل ليعوض في الامتحان النظري . أن الرسوب في هذا الامتحان سوف يسبب له الآم لا تنتهي أن الجلوس لامتحان الملحق، سيؤخر سفره إلى العراق ،إلى أمه الحبيبة لأنها الوحيدة التي تربطه بالعراق ظلت هذه أفكار تدور في رأسه وهو يهبط درجات السلم في إعياء،تباً لهؤلاء السودانيين الم يجدوا مكان على الأرض يقيموا فيه امتحانهم , كان الامتحان في الطابق الثالث في معامل طلاب المستوى الأول ، أربعة أعوام بتمامها وهو يصعد ويهبط هذه السلالم اللعينة , شعر بيد تربت على كتفه، قطعت له حبل أفكاره ،التفت بغتة إذ هو احمد نفس جاره الغريب الذي سأله
- ماذا يا حسين .. الم تستطع تشريح الضفدعة ؟
- لم استطع مع كل أسف
قالها حسين في استسلام
- كنت أرقبك منذ البداية وأنت تجلس عاجزا .. هل نسيت الكيفية ؟
- أبدا أبدا لكني لم استطع فقط
هم أن يشرح له انه منذ صغره لا يستطيع فعل أشياء من هذا القبيل ولكنه طرد هذه الفكرة فشرحها سيطول ويتطلب منه أن يتحدث كثيرا إلى جاره الغريب، خاصة أن حنان قد تركت صديقاتها ونظرت في اتجاههما ويبدوا أنها ستنضم إليهما وقد كان ذلك
- ماذا بك يا حسين هل أنت مريض ؟
سرى صوت حنان في أذنه كالجرس , كان صوتها يشعره بالدوار وردد قائلا
- أبدا انأ على أتم الصحة . لماذا السؤال ؟
- لاحظت أن ضفدعتك لم تمس وظلت تتمتع بصحة جيدة حتى نهاية الامتحان .
نفس السؤال هذا يدل على روح التعاطف التي يتمتع بها هذا الثنائي الغريب .. ومضت هذه الملاحظة في ذهنه ثم تلاشت عندما أردفت
- لا عليك يا صديقي .. عليك الاجتهاد في الجزء النظري
- أن شاء الله
قال حسين ذلك وفي خاطره ألف سؤال ،أحس بان هذا الثنائي يعرفه منذ مدة طويلة ولأول مرة يختفي في داخله الإحساس بالغربة الذي ينغص عليه حياته طيلة السنوات العجاف الماضية، كم تمنى أن يجلس معهما ويحكي لهما كل ما يدور في داخله من ذكريات مريرة، شخص كأحمد جدير بثقته ،كان في إمكانه أن يجلى سر الحزن الذي يخيم عليه بتلك الصورة ومتاعبه الخاصة وأشياء كثيرة تتعلق بماضيه المثقل بالإحزان . كم ود أن يشرح لهما بالتفصيل أسباب عجزه الكلي عن تشريح الضفدعة ،كان ذلك من جراء الرعب الذي يعيشه في البيت , ذلك الرعب الذي جعل شقيقه الأكبر احمد يهرب فرارا من عذاب أبيه وينضم إلى الجيش ليس اقتناعا بجدوى الحرب ولكن كالهروب من الرمضاء بالنار ،سقط أخيه في الأسر في معارك ديزفول عند بديات الحرب ،أثقلت الإحزان قلب أمهم بعد هروبه مباشرة ولم يهدا لها بال حتى اخبرهم مهدي جارهم ذو الأصول الإيرانية الذي يقيم في نفس الحي ،انه سمع أخيهم في إحدى الإذاعات الموجهة التي تبثها إيران لمساعدة الأسرى العراقيين في الاتصال بذويهم .
كان احمد يقريهم السلام ويطلب من أمهم الغفران أما شقيقتهم أمل فقد كانت الأوفر حظا تمنت ان يطرق بابها أول طالب الزواج وتتعلق به كما يتعلق الغريق بطوق النجاة ، كانت أتعسنا جميعا لان عقلية والدهم الممتدة إلى أيام الجاهلية الأولى تجعله يعاملها أسوا معاملة بما في ذلك وضعها في حجرة الفئران الرهيبة التي كانت تظن أنها للرجال فقط ،تفنن والدي بالتنكيل بها وإهدار فرصتها من حرمانها من نعمة التعليم الجامعي أكملت الثانوية وجلست في البيت تنتظر أن تدفن حية . وكان لها جزء صبرها حسن الختام، تقدم لها احد أقارب والدتي الذين نعتز بهم كثيرا ،بسام عقيد في سلاح الجو العراقي ،كان بسام زوج أختي ذلك النوع من الرجال ذو الخلق والدين ،تستطيع المرأة أن تقضى معه رحلة العمر محتفظة بكافة قواها العقلية ،كانت أرى السعادة ترفرف في منزلهم السعيد بمدينة البصرة ،عندما نقوم بزيارتهما انا وأخي في العديد من المناسبات السعيدة، عندما ولدت ابنتها الأولى لمياء، ظل بسام يستقبلنا بابتسامة الودودة , انه يحب أمي حبا جما وكانت هذه أخر وصايا والدته المحتضرة في الزمن الغابر، عندما كان يجلس جوار فراش مرضها الطويل أوصته أمه بان يتخذ والدتي أما له وان لا يرضى لها بديل ، نشا بسام يتيماً بعد وفاة أمه وتزوج والده من امرأة أخرى جعلته يعرف المعنى الحقيقي للتعاسة واكسبه ذلك الصبر الجميل ، ظل يأتي دائما لزيارتنا ويتحمل اهانات والدي الذي لا يعترف أبدا بأقرباء أمي ويعيش في اسر الايدولجية الشوفينية المخيمة على البلاد ، تحمل بسام ذلك إكراما لوالدتي التي رعته وحملت الأمانة على أكمل وجه , كانت تكفله بكل المصاريف التي يحتاجها للدراسة ونسبة لتفوقه العلمي نال منحه من الدولة لدراسة الطيران في الاتحاد السوفيتي ،أصبح من نسور الجو العراقيين ولم ينسى بسام ذلك الفضل لامي وقاد ذلك للزواج من شقيقتي حكمت ، لا يختلف اثنان أن بسام هذا ملاك وليس بشر وكان هذا حال شقيقتي حكمت وبقينا انا وأمي نعاني الأمرين في الجحيم المزدوج، جحيم والدي وجحيم بغداد ،أصبح كل الرعب الذي يكمن في داخلي وعدم الثقة الذي أعاني منه، ناجم عن المعاملة القاسية التي كان يعاملنا بها والدي عفا الله عنه ،
مرت هذه الأفكار في عقله المجهد.. حتى انه لم يفطن إلى انه أصبح وحيدا يسير على رصيف شارع النيل تداعبه نسمات الشاطئ وحفيف وراق أشجار اللبخ التي تظلله وتحمي السائرين من لفحات شمس صيف الخرطوم القائظ في طريقه إلى مساكن الطلاب في البركس*




البركس : اسم يطلق على المدينة الجامعية
(2)
تعتبر حدائق الشهداء تحفة فنية رائعة في قلب الخرطوم , هذه الحدائق تحيطها أشجار ألبان السامقة وتغطي الأعشاب الخضراء كل مكان، كانت هناك نوا فير جميلة يتدفق منها الماء الشيء الذي جعلها تتمتع بجو ممتاز .. بعد أن توطدت أواصر الصداقة بين احمد وحسين ،كانا كثيرا ما يجلسا في هذه الحدائق ,يتسامران في شتى الأحاديث السياسية وغيرها من الأحاديث التي تدور بين الشباب .. جلس الصديقان على العشب الأخضر وهما يحملان زجاجات البيبسي ويجلس عن كثب بعض نجار العملة يتخافتون .. هناك طفلين متشردين نائمين على العشب وأشجار ألبان الطويلة التي كانت تقف في سمو كأنها مردة قادمة من الفضاء الخارجي، رفع احمد زجاجة البيبسي عاليا وصاح ضاحكا
- أينما توجد البيبسي كولا .. توجد الامبريالية .."أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا "
ابتسم حسين ورد قائلا ً : لم تقل لي يا احمد ما هو اتجاه السياسي؟!
- ماذا.. اتجاهي السياسي !
- نعم .. انتم السودانيون تعشقون الحديث في السياسية وتنفقون كل وقتكم تتحدثون عنها
- نعم السياسة أفيون الشعوب
ضحك حسين لملاحظة صديقه هذه وكعادته دائما بدا يعمل على إثارة أعصاب صديقه وردد قائلا:
- يبدو لي انك كوز* خاصة أن لك لحية كبيرة
قفز احمد كالملسوع ونظر إلى صديقه في خنف
- بدأت تثير أعصابي كالمعتاد يا حسين ..
ابتسم حسين في حينه وهو يعرف جميع نقاط الضعف في صديقه وواصل احمد حديثه والزبد يتطاير من فمه
- كبرت كلمة تخرج من فمك .. أنا امقت هؤلاء الأوغاد ... أنا كنت أتمنى أن أكون جمهوري من تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه* ...
- أن شيخك طه هذا..زنديق كما يقول أهل السلف الصالح
عصف الغضب بأحمد تماما، واستوي حال وقد تسارعت أنفاسه
- أنت دون مستوى الصراع ولن أجهد نفسي معك
- هكذا اذا..
- لو كنت تقدر تضحية الحسين عليه السلام،شهيد كربلاء... ،لعرفت حقيقة محمود طه
صمت حسين وغرق في حزنه الخاص ،لقد استعمل احمد دون ان يدري اخطر أسلحته،تلك الذكرى المؤلمة لأبناء الشيعة العراقيين..
- .. أن كلامك حسين يفتح جروح قديمة عادت تندمل .. أنت تحكم على رجل تكاد لا تعرف اسمه وأنا اعرف انه فيلسوف عظيم، كان يقول على الإنسان حتى يتخلص من تناقضاته الداخلية "أن يفكر كما يريد ويقول كما يفكر ويعمل كما يقول ولا يكون نتاج فكرة وقوله وعمله ألا بر بالأحياء والأشياء" وقد عاش على هذه المثل العليا حتى اغتالته السلطة البائدة،هذا الرجل ضحى بحياته ليحررنا من الخوف .
- ولكن أصاحبك الإخوان المسلمين يقولون أن هذا الرجل كافر
- لا يهمني رأي هؤلاء الأوغاد،هذا الرجل امتداد لحضارتنا القديمة كوش الحضارة الأخلاقية العظيمة التي انزل بكم ابن ملكها بعانخي القائد ترهقا أيها الأشوريين الأوغاد الهزيمة في بيت المقدس.. وأنقذ بني إسرائيل..
- تعني نبو خز نصر
- نعم..حتى تعرف الصراع بيني وبينك لم يبدأ معك من الآن...
- ولكن نحن بيننا نسب يا عزيزي..تزوج إبراهيم عليه السلام وهو من أور في العراق بهاجر النوبية جدتك أيها المخبول... وأنجب منها إسماعيل جد إخواننا في اليمن السعيد..
- اذا عليك احترام هذا النسب ولا تحسب علينا الإخوان المسلمين، أنها مجرد بضاعة رخيصة وافدة من خارج الحدود .. مات هذا الرجل من اجل الشعب السوداني أما هؤلاء فقد أحالوا البلاد إلى مقبرة من الجوع والحروب التي لا تنتهي ،انظر حولك واعتبر، متشردين يتضورون جوعا وتجار عمله يستنزفون الدولة ومع كل ذلك هم المسلمون لهم الحق وكل ماعداهم باطل .. ادعوا الله أن يبتليكم بهم في العراق يوما ما..
- بدل ما تدعو لنا بالديمقراطية ،تدعو علينا بالإخوان المسلمين
- إذا تذكر يا حفيد الإمام علي بن أبي طالب، إن هذا الرجل صوفي المذهب على خطى الشيخ عبد القادر الجيلاني أم انك لا تعرفه
- كيف لا اعرفه وأنا من العراق،الشيخ الجيلاني هو همزة الوصل التي تربط العراقيين من زاخو إلى أم قصر ..كما إني اسمع إنشاد تلاميذ طه في أركان النقاش في ميدان كلية الآداب...بعضها من تراث أهلنا الشيعة في العراق أيضا..
- إذا أردت أن لا اغضب منك والقي بك إلى أسد بابل في حدقة الحيوان.. لا تسيء إلى هذا الرجل ثانيتا،اجعل المعركة بيني وبين فقط...
- نعم سوف لن افعل..
- إذا لنوقع ميثاق عدم الاعتداء وإلا سوف تضطر بالاستعانة بقوات الأمم التي ما تحدت يوما المتحدة في المرة القادمة .
رفع الصديقان زجاجات البيبسي كولا عاليا وقرعاها بينما كانت الشمس تميل نحو الغروب وبدأت أشعتها الذهبية تتسلل بين غصون الأشجار .. دب النعاس فيهما واستلقيا على العشب وراحا في سبات عميق، لم يستيقظا إلا على نداء أذان المغرب، نهض حسين أولا ونضي عن ثيابه العشب ثم أوقظ صديقه الذي نهض بدوره وهو ينظر إلى صديقه بتذمر ردد حسين
- ألا زلت حانقا علي ؟
- أمرني الرجل الجليل بان أسامحك .... وماذا بعد ما هي فقرتنا التالية في اليوم المفتوح
- السينما هل هناك شي سوى السينما
- نعم اعتقد ان السينما هي المكان المناسب بعد الانتهاء من امتحانات الملاحق
- أي دار نذهب؟
- الأقرب طبعا،اعتقد أن هناك فلم حربي ممتاز في سينما كولوزيوم
- ماذا ألا يوجد فلم فكاهي أو بوليسي فهذا ليس الوقت المناسب لمثل هذه الأفلام التي تعج بالدمار ..
قال ذلك في امتعاض وهو يسير بجوار صديقه وقد بدا الظلام يحيط بهم رحت السينما لها على البعد بأنوارها الباهرة اقترب الصديقان من مكان التذاكر لحظات وكانا داخل السينما يحملقان في الشاشة وغرقت القاعة في ظلام دامس وبدا الفلم كان مليء بالنيران وجثث القتلى ،التفت حسين إلى صديقه قائلا في اشمئزاز
- ما هذا؟ .. إن الحرب قذرة جدا
- انظر إلى هذه الجثث التي تملا الشاشة
- السينما لا تعكس بشاعة الحرب بصور دقيقة.. إن الحرب الحقيقية أسوأ من ذلك بكثير
- هل تريد الانصراف ؟
قالها احمد بفتور وهم بالنهوض لمغادرة القاعة المظلمة
- لا.. أنا في حاجة لمثل هذا النوع من الأفلام ،بلادي تعيش بشاعة الحرب
نظر احمد إلى صديقه باستغراب وتنهد في يأس عندما وجده متمسك بالبقاء فما كان منه إلا انه أغمض عينه وراح في سبات عميق وأصوات القنابل والتفجيرات تصم الأذان
- استيقظ احمد بعد نهاية الفلم وأضاءت الأنوار ليجد حسين واقفا يحملق فيه
- عليك بإرجاع ثمن تذكرتك أيها الكسول لا ينام في السينما إلا الأطفال والسيدات أحيانا
- أيها الوغد .. أنا أنام في السينما وأنت تنام في الامتحان
- يا الهي هل كان لابد لن تذكرني غدا نتيجة الامتحان
- أهي غدا ؟!
- إذا نجحت سأكون بعد أسبوع في العراق
- وإذا رسبت ؟
- كبرت كلمة تخرج من فمك .. لماذا تتمنى لي ذلك ؟
- أريدك أن تبقى معنا عاما آخر
- عام آخر مع الكيمياء اللعينة
- لماذا تكره الكيمياء إلى هذا الحد الذي يجعلك ترسب فيها كل عام؟
صمت طويلا وهما سائران في شارع الجمهورية ،جوار منزل السفير الأمريكي والهدوء يخيم على المكان نظر احمد إلى صديقه الذي كان يبدوا ساهما،لا بد أنها قصة محزنة من تلك التي تعج بها مخيلته
- ماذا هل هي الذكريات أخرى ؟
- نعم مأساة رهيبة
تنهد حسين واسترسل في الحديث
كان معلم الكيمياء في مدرستنا من أبناء كردستان، له جسد فارع وأنت تعلم أن الأكراد ضخام الجثة وهادي الطباع ،أكثر ما كان يحزني ذلك الشعور بالألم الذي يعتصر وجهه كأن خنجر انغز في خاصرته ، في ذلك اليوم كان الدرس في الكيمياء العضوية ،رزقار من المعلمين الذين يستغرقهم الدرس .. تطرق الدرس إلى غاز سيانيد المثيل السام،تحدث المعلم بإسهاب عن خطر هذا الغاز وانتقلنا إلى حادثة البوبال الهندية ثم تحدث بصورة عامة عن الغازات السامة واجتاح الانفعال وجهه عندما صاح احد التلاميذ في مؤخرة الفصل قائلا حلبجة، اندفع يتحدث بطريقة تكتنفها المرارة عن استعمال الغاز السام في الحروب وانحرف الدرس عن الجانب العلمي وأصبح أشبه بتقرير سياسي يحكي أضرار الغازات السامة وحظرها دوليا وكان يملك إحصائيات دقيقة حتى تخاله احد مندوبي الأمم المتحدة ،كان حديثه يقع تحت سيطرة التداعي الحر لعقله الباطن المثقل بالأحزان، شجب الحكومة بشدة وبكل الآلام التي كانت تكمن في داخله، خلال ساعة كاملة من الدرس وعند انتهاء الدرس أشار إلي كي احمل كراسات الطلاب ويضع عليها العلامات إلى مكتبه ،كان يولي اهتمام خاص بي لم اجلي أمره في بادي الأمر وكان ذلك يسبب لي حرجا بين الزملاء، الطالب الوحيد الذي يعرف اسمه في المدرسة كنت أنا ، رزقار رجل انطوائي، ليس له علاقات مع احد ،يجلس دائما في مكتبه المنزوي الملحق بمعمل الكيمياء وهو ساهم في عالمه الكئيب ، حملت الكراسات خلفه بين غمزات التلاميذ ودخلنا المكتب سويا وأغلق الباب، وضعت الكراسات على الرف وهممت بالانصراف، ناداني بنبره رجل غريق، وضع لي كرسي لكي اجلس قبالته في المكتب، فتح احد الأدراج واخرج مجموعة من الصور البالية وناولني إياها ،طفقت اقلب الصور، برزت صورة كادت تصعقني من الدهشة، كان هناك غلاما يشبهني تماما كأني أتطلع في المرآة .. تغطي وجهه أثار قديمة لمرض الحصبة نظر إلي وردد
- هذا أخي .. عرفت ألان ما سر تعلقي بك
تنهدت في أسى وأنا أرى شقيقه الذي كان صورة طبق الأصل مني وأردف
- هلك جميع من في الصورة
اخذ نفس عميق واستلقى على كرسيه ثم أغمض عينيه وغمغم
- كان ذلك في صباح يوم مشرق اقتربت سحابه صفراء من مدينة حلبجة، لم يأبه لها السكان في الوهلة الأولى، اجتاحت أطراف المدينة .. تساقطت الطيور ميتة، تلى ذلك الدواب ، أصيب السكان بالذعر والسحابة تجتاح المدينة ،مات الأطفال والنساء ثم المعلمين والطلاب ,كان آخر من مات إمام مسجد حلبجة ..الذي سقط والمصحف بين يديه ،كان يريد انقاذ البلدة المنكوبة بكل ما تمل القوى الغيبية من جبروت..ولكنها مشيئة الله..
.. هرب المزارعون الذين كانوا في الحقول عند أطراف المدينة إلى سفح الجبال المتاخمة لتركيا وإيران، هلك نصفهم بردا ً وتم إجلاء الحطام الباقي إلى الدول الأوربية وهذا ما يعرف بمأساة حلبجة ،تعاملت الحكومة بالغازات السامة المحظورة دوليا في محاولة لإبادة الشعب الكردي، فرغ من تقريره ..بان على وجهه الارتياح التام وهو يجلس ساهما وأنا اقلب الصور الكئيبة أمامه وأردف
- أخبرتك أنت بالذات لأنك الإنسان الوحيد الذي له قيمة في نظري هنا ، انك تشبه أخي وكان لي في ذلك حسن العزاء ..
نهض وفتح لي الباب تنبهت بأننا أنفقنا دون أن أحس بمرور الوقت .. طلب مني الاحتفاظ بالصور على سبيل التذكار إذ لم يعد بحاجة إليها وودعني بحرارة وغلق الباب وردد
- وداعا قد لا نلتقي ثانيا تحدثت اليوم في الدرس أكثر من ما يجب
أومأت له مودعا وانصرفت اشق جموع الطلاب الخبثاء الذين كانوا يطلقون أصوات لها دلالات معينة ،معلم وطالب في مكتب مغلق لمدة تتجاوز نصف ساعة اعتقد انك تفهم ما اعني
نظر احمد إلى صديقه في أسى وردد
- اعتقد الطلاب انه (...) !
اكتسى وجه حسين بالغضب وصرخ في وجه صديقه
- مرة أخرى .. ارجوا منك استعمال ألفاظ أكثر تهذيبا
تنهد احمد وقد تملكته الدهشة
- ماذا كنت تريدني أن أقول ؟
أجاب حسين من تحت أسنانه المصطكة
- قل فقط انك تفهم ما اعني أيها الوغد
- لا عليك يا عزيزي.. آسف تابع كلامك
ومضى حسين يكمل المأساة بصوته الرتيب.. في اليوم التالي عندما حضرت سيارة رجال المخابرات إلى المدرسة اندفعت اركض نحو المعمل احذر صديقي رزقار، وجدت المكتب مغلق طرقت الباب بشدة دون إجابة، كان الصمت يخيم في الداخل إلا من حفيف مروحة السقف، استدرت حول المبنى ومن النافذة الزجاجية نظرت إلى الداخل .. كان الضباب الأصفر الكثيف يغطي المكتب، جلت ببصري في المكتب وجدته منكفاءاً على المكتب وقد تحول لونه البرونزي إلى لون ازرق ،كانت هناك خيوط رقيقة من الدم الجاف متجمعة حول انفه وفمه وأذناه واختفى ذلك الألم المطبوع على صفحة وجهه وعاد هادئ كأنه صفحة بحيرة .. كان هناك مصحف ملقى جوار يده المسجاة إلى جانبه افلتته أصابعه المتقلصة، تنفست الصعداء وأنا احمد الله " لن ينالوا منه – لقد تمكن من الفرار " اختار الطريقة التي مات بها أهله ، الطريقة التي مات بها إمام المسجد والمصحف في يده لعله أراد أن يلتقي بهم في مكان ما ،أسدل الستار على مأساة رزقار المعلم الكردي الذي كان يدرس الكيمياء في مدرستنا .
ليت الأمر انتهى عند هذا الحد حيث امتدت الشائعات المغرضة عن طبيعة علاقتي بالأستاذ الراحل إلى بيتنا وفي ذلك اليوم الحزين ضربني والدي ضربا مبرحا وطلب مني الإقرار بأشياء لم ارتكبها .. رفضت وتصلبت برأي وأنا أجد السعادة في تعذيب والدي بهواجسه المريضة واشعر باني انتقم منه وأنا أرى نظرته الكسيرة والإحباط الذي يعانيه من هول ما بشر به .. ومع ذلك لم اعترف .. ألقى بي والدي في حجرة الفئران وهذه آخر مراحل التعذيب في بيتنا .. حجرة الفئران التي جعلت شقيقي الأكبر يهرب وينضم إلى الجيش ويفضل الوقوع في الأسر عند الإيرانيين على البقاء في البيت ودفع شقيقتي الوحيدة أن تتزوج أول رجل تقدم لها ،كانت حجرة الفئران المظلمة تسبب لنا الرعب جميعنا .. عليك أن لا تنام طوال الليل حتى لا تأكل الفئران خصيتيك وأنا في هذا العذاب كانت تخفف على زيارات أمي المكلومة ليلا تحمل لي الطعام وتضمني بحنان حتى جاء يوم الفرج، حضر والدي وصرخ في وجهي بأنه تم نقلي إلى مدرسة جديدة وسأقيم مع عمتي وزوجها المحترم في حي كبار رجالات الدولة وتنفست الصعداء....
نظر احمد إلى صديقه في شرود كأنه لم يسمع ملاحظة صديقه
- هل لازالت صور عائلة رزقار معك ؟
- نعم أحضرتها معي غدا سأريك لها
دفع احمد باب الحجرة بعد أن أرهقهما الحديث الطويل وجلس على الفراش واستلقى حسين في الفراش الآخر
- ما رأيك في كتابة مقال في صحيفة أو مجلة أجنبية مدعما بتلك الصور ؟
استوي حسين جالسا وقد امتلأ رعبا
- لا إن المخابرات تعرف كل شي عننا في الخارج .. لا تتسبب في هلاكي
أطلق احمد زمرة حارة وهو يستلقي على الفراش، يحملق من النافذة إلى اسراب الطيور المهاجرة ليلا وهي تصيح بصيحاتها الغربية ..
- شي يفوق الخيال ، انك تحمل أطنانا من الماسي على كاهلك..
ابتسم حسين ابتسامة صفراء وهو يستلقي بطريقته المفضلة على البلاط ،يمرن جسده بحركاته الرياضية المعتادة...
- وأنت تقوم بدور المسيح غير قيام حاول تخلصني من أحزاني بأقل أضرار ممكنه
تثاءب احمد وردد :
حتما سأحاول...















(3)
ظل حسين يبحث عن صديقه ثلاث أيام في الجامعة ليخبره بأنه نجح رغم انفه، عندما التقى بحنان تجلس وحيدة في إحدى المقاعد المنتشرة على الشارع الرئيسي الذي يشق الجامعة الممتد من كلية العلوم حتى كلية الآداب.
- صباح الخير يا حنان
أفاقت حنان من شرودها عندما رأته أمامها وبدا عليها الاضطراب، لم يسعفها صوتها لترد التحية الذي جلس بجوارها.. ما هذه المفاجئة السعيدة غير المتوقعة .. حسين قد اخذ ياستهويها في الآونة الأخيرة وهي لا تدري إذا كان حقيقة شعورها نحوه حب أم إعجاب.. اخذ يسيطر على تفكيرها تماما .
- تبدوا عليك السعادة, هل هناك أخبار سارة من العراق
- لا لقد ذهبت بعيدا.. فقط لقد نجحت كما تمنيتي أنت لي وسأكون بعد أسبوع في العراق
شعرت حنان كان خنجر انغرس في صدرها كان لابد أن تسير الأمور بهذه السرعة أيقنت أنها تحبه وأنها لم تهيئ نفسها لفقده بهذه السرعة ..
- اهكذا تريد الهروب من السودان وكان شي لم يكن !
قفز حسين كالملسوع ،لأول مرة يلاحظ نبرة الحب في صوتها الآسر .. كان هذا الشعور ينتابه كلما التقى بها .. ظل يشعر بها تحاصره بمشاعرها ويقع فريسة سهلة ، كما تسقط الذبابة في بيت العنكبوت ولا تجد لنفسها فكاكا .. تنهد وأراد تغير مجرى الحديث
- كنت ابحث عن احمد الم تريه في الاونه الأخيرة
لم يستطيع النظر إلى عينيها التين اكتسيا بخيبة الأمل وأدرك انه تراجع سريعا ،كان عليه ان ينسحب ببطء وسمعها ترد بصوت بارد كالحديد .
- احمد ذهب إلى بيت عمه منذ ثلاث أيام لديهم حفل زواج وقد ذهب ليعد العدة مع أبناء عمه، أتمنى أن يأخذك معه لحضور الحفل اليوم حتى ترى بنفسك تقاليد الزواج في السودان .
- تقاليد الزواج لا تختلف في البلاد العربية كثيرا اعتقد في الغالب الأعم لا يتمكن الإنسان من الزواج من الفتاة التي يحب
كان يقول ذلك في مرارة شديدة جعلتها تنظر إليه في إشفاق
- هل عانيت من تجربة مثل هذه ؟
نظر إليها في استسلام وردد في أسى
- الحديث ذو شجون ..أنها قصة طويلة أرجو أن يسعفك الصبر للاستماع ، أنها مأساة حبي الضائع،انها تجربة من تجارب الحب الطفولي التي تبقى في كهف الذاكرة كنقطة مضيئة ،كانت خلاسية، تنتمي إلى الأسر التابعية وهي اسر ترجع أصولها إلى إيران .. قدم جدها في أوائل هذا القرن إلى بغداد ونشط عمله التجاري وتزوج ابنه شريكه في التجارة من الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها وأنجب منها غلام واحد وهو والد الفتاة ،حمل هذا الغلام أجمل ما في أهل أبيه الإيرانيين فضيلة الصبر وأجمل ما في أهل أمه العراقيين وهي الصراحة التي لا حد لها، نشأت هذه الأسرة وغيرها من الأسر الإيرانية في الحي التي تقيم فيه وكانت لهم علاقات طيبة معنا أحيانا تمتد إلى المصاهرة وذلك التشابك القوي الذي يجعل الحرب بين العراق وإيران لا معنى لها . كانت الفتاة تسمى شهرزاد لها جمال طفولي أخاذ ، لعبت بقلوبنا الصغيرة أنا وصديقي عصام وهي تسير بزيها المدرسي البسيط وضفائرها الثلاث التي كانت تتلوي على ظهرها بمشيتها التي تشبه مشية المهر في طريقها إلى المدرسة ، كانت هذه أول تجربة حب لي ،ذلك الحب الطفولي الذي يفجر في النفس أحاسيس غامضة تبعث إلى السعادة ،أحبها كل منا بطريقته دون أدنى غيرة.. هو بقصائده الطفولية الركيكة المستوحاة من كتاب الأناشيد المدرسي، بعد إجراء التعديلات اللازمة عليها وأنا برسوماتي الجميلة للطيور والزهور التي تملا حدائق دورنا .
كثيرا ما كنا نأتي ونلعب في منزلهم سويا وفي مرة حضر والدها ووجدنا نلعب تحت شجرة البرتقال ابتسم من على البعد نادانا أنا وعصام ،كانت هناك علبه طلاء ملقاة جواره ،حمل الرجل الفرشاة ووضع علامة بالطلاء على الحائط بارتفاع اقل من قامته قليلا وقال لنا " من يبلغ هذه العلامة أولا زوجته ابنتي شهر زاد" , تملكني رعب شديد ، كان عصام أطول مني قليلا ويبدو جسده النامي انه سيكون فارعا في الطول أما أنا فمستدير كالكرة كمل ترين.. أصابني ذلك بالسهاد ، لابد أنها ستكون من نصيب غريمي ،ظللت أسير مشدود القامة امام والدها وابحث وأنقب في الكتب الصفراء عن إكسير يجعل الرجل طويلا دون جدوى ووالدتي تنظر إلي في استغراب أسير أمامها على رؤوس أصابعي كلاعب السيرك .. و مضت السنين تباعا ونسينا الشرط الذي وضعه مهدي وعندما دخلنا طور المراهقة مع هذه العلاقة الثلاثية الغريبة منعت من زيارتها منعا باتا واكتفيت أنا وصديقي بالنظر أليها صباح كل يوم و هي تخرج بسيارة والدها في طريقها إلى المدرسة الإعدادية، كانت تلوح لنا بأصابعها ونظل نراقب السيارة حتى تغيب عن الأنظار ويتنهد كلانا في أسى ونفترق كل إلى مدرسته وبدأنا ندخل مرحلة الرسائل الغرامية .كانت ترد ألينا الرسائل البريئة التي تعبر عن مشاعرها الجياشة . لاحظت أنها تصنع نسختين من مسودة واحدة وتذيلها باسم كل منا ، حتى أنها أخطأت و أرسلت لي رسالة عصام و استلم عصام رسالتي، ضحكنا ذلك اليوم حتى كاد يغمى علينا وفي ذات مرة دهمني حلم مزعج شاهدتها تتجول فيه مع عصام في حدائق بغداد ، استيقظت خائفا و بدأت نار الغيرة تشتعل في قلبي و انطلقت المؤامرات الشيطانية تعشش في راسي كتبت في الصباح رسالة إلى عصام بخط يدها و إنا بارع في تقليد الخطوط ،كانت الرسالة مؤثرة، بذلت فيها مجهود جبار حتى تكون بمثابة إسدال ستار مشرف لعلاقتها بعصام و دعوت الله أن يوفقه في المرات القادمة ونوهت في الرسالة إلى حبها لي ذلك الحب الذي ملك حواسها ولم تجد منه فكاكا طويت الرسالة ووضعتها في المكان المعتاد عند أم حكيم صاحبة البقالة في الجوار .. وانتظرت يومين لأرى مفعول الرسالة و فعلا بدأت تباشير النتائج الطيبة ، مرض عصام بالحمى ولزم الفراش و كان من الواجب زيارته حتى استمتع بحلاوة انتصاري ،وجدته مستلقي في الفراش ينتفض من الحمى و أمه تولول وتردد أن ابنها أصيب بداء السحائي الذي كان منتشر وبصوره وبائية في تلك الأيام ، وكنت ابتسم من أعماق نفسي إذ لا تعدو تلك الأعراض سوى أعراض الحب ، إن خروج الحب من الجسد أشبه بخروج الروح من الجسد له سكرات مؤلمة ،ظل عصام ينظر إلي بعينيه الذابلتين التين بللتهما الدموع و أنا أتكلف الجزع عليه حتى لا تفضح العينان ما القلب كاتم وشفي عصام بعد عدة أيام وأذعن للأمر الواقع وصرت وحدي أبادلها الرسائل و الرسومات الجميلة للعصافير و الزهور و ذهبت أشعار عصام إلى مزبلة التاريخ وبما أن دوام الحال من المحال وعلى الباغي تدور الدوائر ، في ذلك اليوم الأغبر أخذت الحرب بين العراق و إيران منعطفا خطيرا وقامت السلطات العراقية بعملية تهجير قسري لكل الأسر التي لها صلة بإيران منذ عهد أبو مسلم الخراساني .. هالني ذلك وانأ أرى الشاحنات العسكرية تقوم بنقل الأسر المنكوبة إلى الحدود الإيرانية و تلفظهم هناك دون رحمة ، كانت الشاحنة تقف أمام منزلهم وانأ أرى من خلف ضباب الدموع الغزيرة و قلبي الملتاع المنظر المشين.. جلس والداها في مؤخرة الشاحنة كسيرين ينظران الأرض، حز في نفسي أن أرى مهدي الذي كان يسير في شوارع بغداد مرفوع الرأس يمنح ابتسامته الرائعة للغادي والرائح دون تكلف ومحبته تغزو القلوب .. يجلس مقهورا على الشاحنة ، كانت شهرزاد تنظر ألي في ضياع ليس له حدود ،كنت أقف جوار والدتي التي خرجت لترى عملية التهجير البشعة ، نظرت إلى والدتي التي بلل الدمع وجهها وتساءلت "لماذا يأخذونهم بتلك الطريقة ؟. إن أسرة شهرزاد تملك من الثراء ما يمكنها من السفر إلى طهران بالطائرة على أفخم الخطوط الجوية العالمية" . ردت والدتي وهي تتمتم في لوعة و عيناها على أم شهرزاد المتشحة بالسواد التي آثرت السفر مع زوجها الإيراني حتى و لو إلى الاسكيمو .."أنها الطريقة الوحيدة لإذلالهم".
تحركت ارتال السيارات وأخلت الحي الذي خيم عليه صمت القبور وغدت الدور الخالية من ساكنيها مرتعا للعصافير و القطط والكلاب الضالة .. جلست مريضا انتفض من الحمى والحب وأهذي شهرا كاملا لا اعرف ليل أو نهار و شفيت بعد مدة و قمت برسم لوحة مأساوية لطائر سقط ميتا تحت أغصان شجرة البرتقال المتيبسة في منزلهم الخالي وعلامة الطلاء لازالت على الجدار ،كنت أنا ذلك الطائر القتيل وعلقت اللوحة في جدار حجرتي بجانب صور الرئيس الكثيرة التي تملأ الجدار ولم ينتهي الأمر عند هذا الحد ، وفي إحدى أيام طوافنا على أطلال المنزل الخالي ونحن نجتر ذكريات الحب و العذاب وتحت ضغط مشاعري الملتاعة اعترفت لصديقي بالرسالة المزيفة ، لم يكترث في بادئ الأمر ألجمته المفاجئة . وبعدها انقض علي و دارت بيننا معركة شرسة قاتل فيها عصام بضراوة حبه الذي انطفأ بسبب تلك الرسالة المزعومة ، أصابني بجروح عديدة وكسر في إصبعي و بعد أن أوسعني ضربا و رفسا وسقطت مهزوما مضرجا بالدماء، ركع جواري وطبع على جبيني قبلة أخوية وردد ساخرا
- ألف مبروك يا عريس بغداد.
و انصرف يجر قدميه جرا دون أدنى التفات . صرخت في أعقابه وان أقاوم البكاء في نشاط
- اللعنة عليك أيها المعيدي* المتوحش
رد علي بضحكة مجلجلة جعلت الدم يغلي في عروقي و الدموع تطفر من عيني .. أنا المهزوم دائما في المعارك و نهضت احمل رفات قلبي المنفطر عائدا إلى المنزل وأصبحت بعد ذلك مجرد ذكرى شهرزاد أو تصوري لها تجلس مع زوجها الإيراني في طهران تبعث في نفسي الكآبة والأسى العميق، كانت تلك أول تجربة حب وأخر تجربة حب عشتها حتى ألان
أفاقت حنان من شرودها الطويل وهي تستمع بكل حواسها لتجربة حسين الذي كان يحكيها في أسى عميق .. و نظرت إلى ساعتها ورددت
- ارجوا المعذرة يا حسين . لدي موعد .. كنت أود البقاء معك
نهض ومد يده ليودعها و ما إن احتوى أناملها الرقيقة بين أصابعه حتى شعر بان قلبه سوف يقفز من مكانه ، سحب يده وودعته بابتسامة ساحرة ظلت عالقة في ذهنه ذلك اليوم حتى التقى بأحمد أخيرا في قاعة الطعام الكبرى ، لم يشاء حسين أن يخبر صديقه بلقائه مع حنان بل عاتب صديقه على غيابه الطويل
- إذا هربت إلى أم درمان.. هل هذه خيانة منك ؟
- لم استطع العثور عليك لأخبرك بمكاني . تركت لك مذكرة في الغرفة الم تجدها .
- لا لم اذهب إلى الحجرة منذ مدة . أخبرتني حنان..
انزلق الاسم على لسانه مغالبه ولم يفطن لأي تغير في وجه صديقه .. يبدو أن هواجسه كانت أكثر مما يجب . إن صديقه احمد لا يغار منه..ولن تتكرر مأساة عصام هنا أيضا..
- حفل الزواج اليوم . ستكون ليلة من ألف ليلة وليلة كلفنا الإعداد لها أكثر من ثلاثة أيام بلياليها سنذهب سويا
- أتمنى ذلك.. بل نعتبرها حفل النجاح والعودة إلى الوطن
- هل نجحت .. مبروك .. هيا نعد أنفسنا فالوقت يمر سريعا . ونهض الصديقان و خرجا من القاعة و اتجه كل منهما غرفته..






(4)
كان الهدوء يسود شوارع الخرطوم في ذلك الوقت المتأخر من الليل .. والصديقان يسيران في الشارع الإسفلتي الخالي إلا من السيارات التي كانت تمر في فترات متقطعة ، كانا يسيران صامتين .. لم يكن هناك داعي للكلام ..فقد استنفذا كل طاقتهما في الرقص ، كما كان لنسائم الليل فعل السحر على إدارة الخمر الذي احتسياه بكثرة في رأسيهما ،حانت من احمد التفاته إلى صديقه الذي كان يمشي متعثرا و لأول مرة يلاحظ الحقيبة الصغيرة المتدلية من يده ،هذه الحقيبة العجيبة التي تحوي جواز السفر و الأوراق الهامة ،كانت الإضاءة خافتة في ذلك الزقاق الذي انعطفا عليه .. فجأة ظهر من على بعد ظلين لرجلين، تسمر الصديقان في مكانهما وأخذا يحملقان في الرجلين اللذين ظهرا في مقدمة الشارع
-من هؤلاء
قالها حسين بتوجس وهو يقبض حقيبته الصغيرة بشدة
- في غالب الأمر قطاع طرق لقد اعتدت على هذا النوع من اللقاءات.
_ ماذا تقول !!قطاع طرق هيا بنا نهرب .
- نهرب !! لا يا عزيزي.
- أنا اعرف انك شرير و متوحش وليس هناك داعي لتثبت ذلك.. دعنا نرجع
- والله لن تقول العرب رجع
قال احمد ذلك وهو يتجه بإصرار في اتجاه الرجلين و صديقه يحاول إيقافه .
- يا احمد أنت لا تعلم .. أنا لا أخشاهم و لكن في حقيبتي جواز السفر إذا أخذه هؤلاء سيسبب لي متاعب لا حصر لها هناك..
- لا عليك . دعهم لي .. اختبئ خلفي
كان يقول ذلك و المسافة قد بدأت تضيق تدريجيا ، اندفع احمد نحو أطولهم و رفسه في صدره .. طار في الهواء وسقط وهو يتحشرج يبدوا أن إضلاعه تهشمت و كان الرجل الثاني قد اخرج مطواة و اخذ يقترب من حسين وهو ينظر إلى الحقيبة الصغيرة المنتفخة المتدلية من يده .. استدار له احمد و رفسه في ظهره طار الرجل و اصطدم بالحائط و سقط على الأرض وقد تغطى وجهه بالدماء بلا حراك ..يبدو أن دروس الدفاع النفس التي يتلقاها في نادي الخريجين أتت أوكلها.. صرخ حسين في فزع
- ما هذا . قتلته .. قتلته !!.
- دعك منهم هيا بنا نهرب قبل أن تأتي دورية الشرطة
اندفع الصديقان راجعين من الزقاق المظلم و قد لمحا دورية الشرطة تقترب من الطريق المقابل .. ظل الصديقان يركضان لمسافة طويلة .. وتوقفا أخيرا. يلهثان ... التفت حسين إلى صديقه قائلا
- قتلته اجزم بذلك.
التفت احمد إلى صديقه بحدة ووضع يديه على أكتافه و أداره نحوه وهو يحملق في عيني صديقه بتحدي و قد تلاحقت أنفاسه
- لم اقتلهما بعد.. اسمع يا صديقي أنا اعرف انك إنسان مسالم لكن في معارك كهذه إن لم تقتلهم قتلوك .. قتل قطاع الطرق هؤلاء احد أقاربي منذ أعوام مضت ، يجب أن ننسى العواطف في ظروف كهذه .. الم ترى انه كان يريد ذبحك بالمدية .. وتمتلئ الصحف غدا بنبأ وفاة طالب عراقي في ظروف غامضة الشيء الذي قد يخلف أزمة سياسية بين بلدينا .. أنسى يا صديقي تخيل انك كنت تحلم بكابوس مزعج.
هز حسين رأسه وقد هدأت أنفاسه
- جواز السفر!!
- اعلم ذلك. ضياع جواز سفر مواطن يعيش بلاده حالة حرب مزمنة . سيتهمونك ببيعه على الأقل
- لن اذهب معك إلى أي مكان مرة أخرى !!
- لماذا؟ هل أنت خائف علي إلى هذا الحد ؟ أردت أن اكسر روتين الحياة الرتيب .. المغامرة تعطي الحياة رونق أم انك ترى شيئاً أخراً .
- لن استطيع أن أفهمك إطلاقا ولو أنفقت عمري كله في دراستك أيها الوغد المتوحش
- لا داعي لذلك. إني هين تستخفني بسمة الطفل الغرير قوي أصارع الأجيال .. لننسى كل هذا ونلتمس طريق آخر غير هذا الطريق الذي يقع فيه بيت السفير الأمريكي، انه يثير أعصابي
كان الصديقان قد شارفا بيت السفير الأمريكي عندما قال احمد ذلك و انعطفا إلى شارع النيل الذي يمتد بجوار النيل ويقود إلى مساكن الطلاب .. ظلت خطوات الصديقان تقرعان شارع الإسفلت و هما يبتعدان من بيت السفير وقد استغرق كل منهما في أفكاره الخاصة و هذه عادة يلجأن إليها لدفع الإحساس بالتعب و قتل الوقت .. خاصة أن هذا الطريق قد سلكاه مرارا ... قطع حسين حبل الصمت و التفت إلى صديقه قائلا
- إن وقع خطواتك الواثقة على الأرض يذكرني بخالي حسين التفت احمد إلى صديقه الذي غمره الأسى
- خالك حسين !!.
- عندما كنت اجلس للمذاكرة في القاعة التي تأتي إليها أنت كان وقع خطواتك الواثقة يذكرني بخالي حسين . كان له نفس وقع خطواتك الواثقة .. كنت أتأمل قوامك الفارع و وجهك الشاحب الذي يشبه وجه المسيح .. كنت تشبه خالي تماما حتى في طباعك الساخرة عندما تنكل بي .
نظر احمد إلى صديقه في دهشة للنغمة الحزينة التي غمرت كلامه . كانت تشوبها المرارة . ردد احمد و لا زالت وقع خطواتهم تقرع الأرض ممزقة السكون المخيم على المدينة
- ماذا اعتقد أنها مأساة أخرى
تنهد حسين وردد في أسى و هو ينظر ساهما في الطريق الممتد
-أنها قصة طويلة من تلك الذكريات المؤلمة التي يثقل بها كاهلي حدث ذلك في عيد عاشورا ء منذ عدة أعوام مضت ،نزلنا أنا وأمي إلى مدينتنا النجف كانت تغمرني السعادة
سنلتقي اليوم في بيت جدي بخالي حسين الذي سميت عليه، كنت انظر من نافذة السيارة و هي تشق طرقات النجف الهادئة بفضول طفل من بغداد يزور الضواحي لأول مرة
كانت الشوارع تغطيها زينات العيد و الشرائط الحمراء و الصفراء و صور الرئيس .. قيل أن الرئيس سيزور النجف هذا العيد ، في بيت جدي رأيت خالي لأول مرة كان لا يشبهني قط .. طويل القامة بصورة مذهلة له عينان نافدتان و جسد ضامر كالغزال و شعره الأسود الكثيف مرجل بصورة ثائرة تجعله أشبه بالنار المشتعلة .. انف مستقيم شامخ و فم مطبق بإصرار . كان يشبه تصوري للمسيح بن مريم .. تأملني خالي بعينين ساخرتين . و نظر إلى أمي مرددا في استهزاء
- ما هذا الذي جئت به من بغداد؟!.. انه أشبه بكيس الحنطة
نظرت أليه والدتي معاتبة
- لا تجرح مشاعره لقد حضر ليزورك
ابتسم خالي في رفق و ردد
-ابنك يشبه أهل أبيه في بابل و طبق الأصل من أطفال بغداد عبارة عن كتلة من اللحم والشحم . أما كان عليك أن تجعليه انحف قليلا .
لم استاء من اهانة خالي،كنت نفسي اكره جسدي المكتنز الذي كان مثار سخرية كل من يراني . لقد اعتدت ذلك .. على العكس نظرت إلى خالي بإعجاب شديد و فضول لا يقاوم .. انتهى الاستقبال و تعودت على منزل جدي ،ظللت كلما استيقظ في الصباح اندفع نحو حجرة خالي و أطارده طوال اليوم بفضولي الطفولي و هو ينتقل من حجرة إلى أخرى بخطواته الواثقة ،كان يلاحظ ذلك و لم يأبه بي ، استسلم لمطارداتي و لكن بحدود عندما يخرج يوقفني عند الباب و ينهرني بأنه يجب علي أن أعود ، أحيانا عندما أضايقه بمطاردتي يصرخ في وجهي " لا بد انك في المخابرات ".. كانت والدتي تضحك كثيرا و تنظر إلى خالي في سخرية و تجيبه باني عندما أصبح كبيرا ستجعلني اعمل في المخابرات مع زوج عمتي .
في يوم العيد كانت المدينة قد لبست حلة زاهية و استعدت لاستقبال موكب الرئيس ، كنت اجلس أمارس هوايتي المفضلة و هي استخراج صور الرئيس الملونة من المجلات والصحف القديمة و الاحتفاظ بها لأعلقها في حجرتي .. خرج خالي بسرعة لم ألفها فيه من قبل كان بادي التوتر ثم حضر ومعه حقيبة و دخل غرفته الخاصة ووضعها هناك و خرج مرة أخري ، كان وجهه متصلب أكثر مما يجب كأنه عازم على أمر جلل ،عدت مرة أخرى العب معه لعبتي المفضلة المطاردة .. لمحته يحمل المنشفة و عرفت انه سيذهب إلى الحمام و عندما حمل الحقيبة عرفت أن الأمر لا يعدو الاستحمام ،دخلت الحمام خلسة و اختبأت في كومة الملابس المتسخة المعدة للغسيل .. و صرت أرى بأذني فقط سمعت خطواته الواثقة تقترب من الحمام و دخل وأغلق الباب بإحكام . أزحت الملابس عن عين واحدة و نظرت، عرى خالي نصفه الأعلى و بانت عضلاته المفتولة و صدره العاري و اخذ يحمل أشياء غريبة من الحقيبة و يربطها على جسده .. كانت أجهزة غريبة، ظل يقوم بعمله ببطء و حذر انتهى من عمله و نظر إلى نفسه في المرآة و تنفس الصعداء ارتدى ملابسه بحذر وانصرف .. خرجت بعد مدة كافية خلفه كانت أمي تجهز طعام الإفطار تنوه خالي على الإفطار، جلست على المائدة و باشرت في تقطيع و تجميع صور الرئيس ارجع خالي الحقيبة إلى حجرته.. علا صوت هتافات الجماهير في الشارع .. وصل موكب الرئيس .. خرج خالي من حجرته و اندفع بخطوات واسعة نحو الباب الخروج ،نادته أمي من المطبخ
- يجب أن تعود سريعا ..الإفطار جاهز .
أجابها وهو في الخارج بأعلى صوته حتى يطغى على هتافات الجماهير
- كلا لن أعود ثانيتاً .
خرج خالي وأنا انظر إليه من خلال النافذة .. اندس وسط المواطنين . كان الخروج لاستقبال الرئيس عبء رسمي واجب على كل فرد و يعفى من ذلك كبار السن و الأطفال و المرضى ، كان المواطنون يرددون الهتافات التي لا روح فيها و يوزعون ابتسامتهم الصفراء الجنائزية على موكب الرئيس، شاهدت خالي يندس بين الجموع و اختفى عن ناظري و عدت إلى صور الرئيس
لعلع صوت الرصاص .. ثم دوى انفجار هائل اهتز له المنزل . و تحطم زجاج النوافذ و استمر إطلاق نار متقطع وعم الصراخ و الهرج في الخارج .. خرجت والدتي من المطبخ و مسحت الحجرة بعينيها المذعورتين بحثا عن خالي .. انفتح الباب الخارجي بقوة و دخل احد الصبية من أبناء الجيران و قد تقطعت أنفاسه و وجهه المرعوب مغطى بالغبار نظر إلى أمي و صاح
- لقد فجر حسين نفسه!
انهارت أمي باكية و أخذت تصرخ وتولول لم افهم ماذا قال الصبي لأول وهلة و لكن أيقنت أن خالي هو سبب الانفجار الذي دوى في الخارج ..جلست والدتي تندب كل من مات من أهلنا الشيعة منذ موقعه الجمل .. و منذ وعيت على الدنيا لم أرى والدتي من غير دموع .. كانت دائما تبكي .. و أنا انظر إلى أمي التعسة سمعت الخطوات الواثقة تقترب من الحجرة التفت ناحية الباب .. لمحت خالي حسين بجسده الأثيري المغطى بالدماء .. جلس جواري وأنا أحدق فيه كالمشدوه .. وانظر إلى أمي التي كانت تردد أنه لن يعود أبدا . وأنا أراه جالسا في كرسيه جواري و لازال طعام الإفطار أمامنا لم يمس ،تنهد خالي ونظر إلى أمي "أنها لن تراني .. لا يرى الشهداء ألا الأطفال اللذين لم يتلوثوا بالجنس بعد.."
نظرت إلى خالي المضرج بالدماء في دهشة و أردف
-لا تندهش .. طلبت من السماء الانتظار حتى أودعك و اعتذر لك عن ما بدر مني في يوم لقاؤنا الأول..
ابتسمت وأنا أتأمله بجسده الذي تغطيه الدماء وهو يحدق في بعينيه النافذتين .. نظر إلى قصاصات الصور بين يدي و اكتسى وجهه بالغضب الشديد و ردد
-لماذا تجمع صور الرئيس؟
أجبته في فخر
- أنا أحب الرئيس ... والدي يحب الرئيس .. كل الناس تحب الرئيس و يقضون الساعات الطوال في جمع صوره و تعليقها على جدران منازلهم .
بان الامتعاض على وجه خالي و تفرس في بحدة
-هل تحبني أنا أيضا؟
قلت بانبهار
-احبك أكثر من نفسي يا خالي العزيز.
ابتسم بصعوبة وردد
- إذا اسمع رأيي في الرئيس .. أنا امقته كما امقت الشيطان نفسه.
صدمني قراره المفاجئ .. و أنا اعرف أن الموتى دائما على حق .. كان خالي الشخص الوحيد الذي صادفني خلال حياتي المحدودة الذي قد اقر بكراهيته للرئيس علنا .. حفرت كلماته في نفسي أخاديد لا تمحي .. ثم أردف
- انظر إلى الدماء التي تغطي جسدي .. قتلني رجال الرئيس بالرصاص .. بعد كل هذا .. هل تحب الرئيس؟
انتابني شعور بالغضب المدمر عندما عرفت أن الرئيس هو الذي تسبب في موت خالي و في ثورة الغضب مزقت كل الصور أمامي ، اندفعت أمي نحوي في خوف شديد و جمعت القصاصات الممزقة وهي تنظر إلى الباب حتى لا يدخل زائر غير مرغوب فيه ويرى صور الرئيس الممزقة. ابتسم خالي في ظفر و أشار بيده الدامية نحو الصورة الفخمة التي تزين جوار قاعة الطعام ذات الإطار المذهب ويبدو فيها الرئيس في أوج زينته ،نهضت و حملت طبق الطعام وهويت به على الصورة .. سقطت على الأرض تناثر الزجاج و تلوثت بالطبيخ صرخت والدتي رعبا و هي تركض خلفي من حجرة إلى حجرة و أنا اهوي على صور الرئيس تكسيرا و تمزيقا . و لأول مرة خلال تاريخها الطويل صفعتني أمي بقوة ناجمة عن الرعب الذي طغى عليها من تصرفاتي الغريبة
- لماذا تمزق صور الرئيس ؟؟
رددت بنفسي نغمة خالي المتشفية .
- لأني امقته كما امقت الشيطان نفسه..
انهارت والدتي على الأرض باكيه و عدت اجلس مع خالي .. رمقني خالي بإعجاب و ردد
-حسنا فعلت .. إني منصرف الآن .. تعال لزيارتي في عاشوراء من كل عام
رددت في أسى
-سأفعل يا خالي
نهض و سار بخطواته الواثقة وعند الباب التفت ألي ونظر إلى أمي في إشفاق
-اذهب وواسي أمك .. اخبرها انه لا داعي للحزن .. يجب عليها أن تتعود على ذلك .. رحل نصف أهلنا بهذه الطريقة.
و منذ ذلك اليوم كنت أعود إلى النجف في يوم عاشوراء كان خالي يستقبلني بجسده الاثيري المخضب بالدماء ونظل نمرح سويا و والدتي تنظر ألي كالمعتوه حتى جاء ذلك اليوم الأغبر بعد أربع سنوات . كان الحلم مشوشا قبيحا حلمت بالأرملة اللعوب مستلقية عارية على أريكة في بيت عمتي كان زوج عمتي يقف جوارها منتصبا كما رايتهما المرة السابقة .. دخلت إلى المطبخ وحملت سكينا حادا وعدت لأجد حجمي تضاعف حتى غدوت بحجم زوج عمتي والسكين في يدي . و اشتبكنا في معركة شرسة .. كانت المرأة تضحك في جزل إذ كان هناك رجلين يقتتلان من اجلها .. طعنت زوج عمتي في قلبه أرديته قتيلا سقط على الأرض و هو يخور كالثور و همد جسده إلى الأبد واتجهت نحوها و هي تنظر ألي في لهفة أغمضت عيني وهويت بالسكين أمزق جسدها و هي تضحك ضحكاتها المجنونة حتى نفقت تماما وكان لذلك لذة مميتة جعلني استيقظ واجد نفسي مبللا و في حاله يرثى لها و لأول مرة في حياتي و كان ذلك أبشع يوم يمر علي .. حين تعلم انه عند الشيعة بحكم تربيتنا الدينية الملتزمة نخاف من النجاسة كما نخاف من الأسد .. لن أرى خالي بعد اليوم تلوثت بالجنس المحرم . و قد كان ذلك فعلا .. عندما سافرت إلى النجف يوم عاشوراء في العام الذي شهد حضوري إلى السودان لم أراه ،سمعت صوته كأنه قادم من وادي سحيق .. و وقع خطواته الواثقة لا هنا ولا هناك يبدو بعيدا كأنه راحل صوب السماء .. كنت أغلق جميع نوافذ البيت حتى لا يأتي الضجيج من الخارج و اسمعه بوضوح .. صرخت لخالي بأعلى صوتي باني ذاهب إلى السودان .. ترامى صوته من مكانه البعيد " اذهب ببركة الله ..السودان والعراق انعكاس مرآة..فقط اتبع إحداثيات التاريخ.. وداعا . جئت لأودعك . انتهت المهلة لتي أمهلتني لها السماء "..
أردفت لخالي باني لم اخبره في الماضي إني قد قمت بتمزيق جميع صور الرئيس في غرفتي في بغداد ، ضحك خالي وترددت ضحكته في الأبدية" حسناً فعلت " .
وكما ترى اليوم أني أسير معك في هذا الطريق المقفر ولا اعرف إذا ما عدت إلى النجف يوم عاشورا ساجد خالي أم لا.
كما أحيطك علماً بالظروف والملابسات لموت خالي كما عرفتها لاحقا كان يتقدم بين الجموع المحتشدة بإصرار نحو موكب الرئيس حتى غدا قاب قوسين أو أدنى , كانت هناك ثلاث أمتار حاسمة , فضحه الإصرار الذي كان يكسوا وجهه ممزوجاً بالغضب المتراكم في داخله , أطلق عليه الحراس النار تفجر خالي وتناثر في الفضاء ..قتل معه زهاء ثلاثون شخص من أهل النجف عمت الفوضى المكان واستمر إطلاق النار على جموع الموجودة هناك سقط خمسون آخرون , وانتهى العيد في ذلك اليوم بكارثة وغرقت المآتم المدينة وانصرف موكب الرئيس تاركاً المدينة غارقة في الأحزان , أحزان الشيعة التي لا تنتهي .
ولج الصديقان من بداية البركس وقد استغرقهما الصمت مرة أخرى وعند أسفل المسكن التفت حسين إلى صديقه
- مأساة خالي أنستني موضوع هام كنت أود محادثتك فيه
نظر احمد إلى صديقه في دهشة
- انه بخصوص صديقتك حنان , أنها توجه لي اهتمام غير عادي لم استطع لم استطع!!
- لم تستمع ماذا ؟ ... تحدث أنا منصت
- لم استطع أن اخبرها بأنه لظروف كثيرة لا يمكني أن أحبها فالحب ليس تضيع وقت , كما أنا اعرف انك تحبها .
- فهمت يا حسين
قالها في الم شديد , ثم واصل صديقه وقد اعتصره الألم
- لاحظت ذلك من قبل أن تقوله لي , كنت اشعر أنها في الآونة الأخيرة تجاملني فقط وتحبك أنت
أغرقت عينا حسين بالدموع وهو يحدث في صديقه ورد في حسرة
- علاقة مثل هذه سببت لي خسائر كبيرة في الماضي
- ماذا؟!
- تمزق قلبي , وامتلاء جسدي بالرضوض والدماء من جراء ذلك وأنا لا أريد تكرار التجربة..
وضع احمد يده على كتف صديقه في ود , بينما كان حسين يحملق في احمد لمساندته
- لا عليك , لننصرف الآن , وغدا سوف أقابلها واشرح لها كل شي , وسأقضي على نفسي وعلى حلمها الجميل
كان هذا آخر الكلام وافتراق الصديقان كلا إلى حجرته وبدون وداع , كانا يرزحان تحت وطأة الأفكار التي تتزاحم في رأسيهما وفي تلك الليلة ظل احمد مستيقظاً يحملق في سقف الحجرة "هل كان لابد أن يخبرني حسين بشيء كنت اعرفه أم انه شعر بالآلام التي أعانيها , إن حسين هذا شخص يخيفني , كيف يقرا أفكاري وحنان التي أحببتها طوال هذه السنين , انطفأ هذا الحب أم أنها تحت تأثير السحر والغموض اللذان يشعان من صديقه ".. أخبرته جدته في الماضي , ان الغموض يستهوي النساء , ويجعل الرجل أكثر جاذبية ،شرط أن لا يكون مفتعلاً , حسين الغامض المثقل بالإحزان , وقصة خاله الغريبة والمؤثرة كل هذه الأشياء تبعث على الحيرة ، "غداً سوف اخبر حنان بان حسين لا يحبها وليكن ما يكون , ظلت هذه الأفكار المتضاربة تدور في رأسه حتى تعالى آذان الفجر ".









(5)
كان صوت حذاؤه يقرع بلاط دهليز المكتبة بانتظام كبندول الساعة عندما سمع صوت هامس ينادي اسمه التفت حسين ووجد حنان منزوية عند احد الأركان , تسمر من مكانه " هل يا ترى اخبرها احمد أم ليس بعد ؟!" كان يخشى الوقوف معها وحدها تمنى في تلك اللحظة لو تنشق الأرض وتبلعه على أن يراه احمد معها , في هذا المكان المنزوي كان يبدو من هيئتها أن احمد لم يقابلها بعد , ظلت هذه الأفكار المضطربة تدور في ذهنه وهو يقترب منها ..
- مساء الخير حنان
- مساء النور , هل أنت خالي الليلة؟ , أم لديك مواعيد كالمعتاد !
قالت ذلك وهي تنظر إلى عينيه الشيء الذي أشعره بالدوار ،كم هي جميلة حنان , عندما حضر إلى السودان قبل أربعة أعوام كان رفاقه في العراق يرسلون له خطابات يعزونه بأنه فارق الجمال في العراق ولن يرى فتاة جميلة حتى يعود ولكنهم كانوا على خطا كبير, حنان هذه لهل سحر أخاذ ولها شخصية مسيطرة لا يمكن تجاهلها , كان الظلام الذي بدا يلف الكون ويلقي عليها ظلال من السحر , وبدا الطلاب يتدفقون لأداء صلاة المغرب، كانوا يندفعون في الدهليز , كان ينظر إليهم في توجس لعله يرى احمد بينهم , لاحظت انزعاجه وشروده , ووجهت له نظرة قاتلة من تلك التي لا يتحملها
- لماذا أنت منزعج هكذا ؟
- أبداً.. أبداً ولكن ,
هم بان يقول لها انه يقدر مشاعرها ولكنه شعر بالاستياء وأسعفته هي عندما رددت
- ارجوا أن تذهب معي إلى السينما اليوم , لأني لا استطيع الذهاب وحدي
اخذ يحملق في الأرض , أيقن انه حوصر تماما إذا رفض هذه المرة ستكون قاصمة للظهر , فانه لا يريد فقدها كصديقة , خطر له يكذب مرة واحدة خلال هذا اليوم، قال لها بعد تردد
- آسف لا استطيع لدي موعد مع أحمد
نظرت إليه في أسى
- لا داعي للكذب يا حسين , احمد ذهب إلى مدينة مدني منذ الأمس لظروف خاصة , كان يجب عليك أن تقول انك لا تريد الذهاب معي .
أغرقت عيناها بالدموع واستدارت للانصراف ودون وعي مد حسين يده ممسكاً بيدها ليوقفها , شعر بتيار كهربائي صعقه فا طلق يدها , وقال لها في نبرة مخنوقة
- أنا آسف جداً سأذهب معك إلى سينما حتى لو زحفت على الأرض زحفا
- لا دعك مني , لا أريد الذهاب معك , سأنتظر عودة أحمد غدا ونذهب سويا هل يناسبك ذلك ؟
أدرك مغزى كلامها وان اللبيب بالإشارة يفهمون وعرف انه لا توجد قوة في العالم سوف تغير رأيها مرة أخرى وتذهب معه إلى السينما , أذعن للهزيمة النكراء هذا كله من جراء الكذب , الذي لا يتقنه أبداً , أخذت تبتعد وهو واقف كالمذهول حتى غابت في آخر الدهليز , اندفع خلفها ولحسن حظه سمع صوتها وهي تقف عند حافة الدهليز مع صديقاتها , وقد عرف من سياق حديثهن بأنهن ينوين الذهاب إلى السينما , وجدها فرصة لرأب الصدع الذي أحدثته كذبته اللعينة , قرر دخول السينما ويلتقيها هناك ويجعل الأمر كأنه من باب الصدفة , تراجع في الدهليز والتمس طريقاً آخر يقود إلى السينما , كانت أنوار السينما تلوح من بعيد وقد احتشد جمهور غفير هذا اليوم , لم يكلف نفسه النظر إلى معرفة العرض وانطلق إلى داخل السينما وأظلمت القاعة حيث كان يعرض فيلم (الحدود) لدريد لحام وعندها عرف لماذا دعته حنان لمثل هذا الفلم , كان يحكي ضياع مواطن عربي في الحدود بين دولتين , حيث كان دريد لحام ينتقد الحدود الوهمية التي تفصل بين الدول العربية , كان فلماً هادفاً يهم الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج , اخطأ في فهم حنان فهي لا تريد الانفراد به كما ظن من أول وهلة ،مع العلم انه يعرف حبها له في كل حركة من حركاتها أو سكنة من سكناتها , عزم بعد انتهاء الفلم أن يبحث عنها في السينما ليعتذر منها مرة أخرى , استطاع أن يحدد موقعها في الظلام بسماع ضحكتها البريئة التي يعرفها جيداً , كانت تطلقها مع صديقاتها في المواقف الطريفة في الفلم .
انتهى العرض وسبحت القاعة في الأضواء , نهض والتفت إلى جهتها , لمحته وتسمرت في مكانها من شدة الدهشة , لم يتمالك نفسه وابتسم لها وانتظر أن ترد له ابتسامته بأحسن منها , ظلا يتبادلا النظرات وقت طويل حتى فطنت صديقاتها للأمر , وأخيراً ابتسمت له , تنفس الصعداء , أنها لم تعد غاضبة عليه , إذ لم ترد له الابتسامة لمات منتحرا تلك الليلة , وجال في خاطره صديقه احمد فسخط عليه ولعنه في سره لأنه سافر دون أن يخبره وأسقطه في هذا المأزق الذي لا يحسد عليه , خرج مع مواكب الخارجين ومن بعيد لوح لها وهي تبتعد مع صديقاتها , لوحت له في جزل ,أيقن تماماً أن ابتسامتها لم تكن وهماً , وتنفس الصعداء واستدار نحو البركس لينام سعيداً..






(6)
جلست حنان بإعياء في إحدى الكراسي المنتشرة في الكافتيريا , كان احمد يتناول كوبا الليمون من البائع ثم استدار راجعاً وهو يتعثر .
ظل عقله يدور كالماكينة "كيف سيخبرها ؟.. من أين يبدأ ؟, كيف سيفهمها بان حسين لا يستطيع أن يحبها والأصعب من ذلك كيف سيشعرها بحبه القديم لها دون أن يجرح مشاعرها"
جلس أمامها وناولها كوب الليمون متحاشياً النظر إليها.
- حنان أود أن أخبرك بشي , لكن أجد الكلمات تهرب مني
نظرت إليه نظرة خاوية , وكانت تبدو ساهمة كأنها لم تستمع المقدمة التي بذل مجهودا جبارا في حياكتها ,تابع كلامه والآم يعتصره
- كلفني حسين بذلك , أود قوله حتى ينزاح عن كاهلي هذا العبء
بدا الاهتمام على وجه حنان لدا سماعها اسم حسين ونظرت إلى عيني احمد التين طفح بهما الألم .
- ماذا قال لك حسين بخصوصي؟!
- قال انه جداً متأسف , انه لا يستطيع مبادلتك الشعور , كما انه مقدر حقيقة عواطفك نحوه , لكن هناك استحالة لمثل هذه العلاقة وهو عراقي أجنبي والسودانيون ولا يزوجون بناتهم بالأجانب .
مرت لحظات صمت ثقيلة , ثم جمع أطراف شجاعته وواصل حديثه
- كان يريد أن يقول لك ذلك نفسه , لكنه لا يتحمل رؤية الدموع خاصة في عيون فتاة جميلة مثلك .
ابتلع أحمد ريقه بصعوبة , لان الملاحظة الأخيرة من عنده هو واستمر مواصلاً حديثه
- أنت ألف من يتمناك , كما انه معجب جداً بأخلاقك وأسلوبك في التعامل معه ومع بقية الأصدقاء
ظل يتحدث بصورة آلية دون أن يرفع عينيه من كوب الليمون الذي كان يهتز أمامه , وهو ممسك به بأصابعه المرتعشة ثم أردف مواصلاً
- إن مثل هذا الكلام يجعلني في موقف لا احسد عليه , اخترت دور الشمعة , أضيء للآخرين واحرق نفسي .
لم يكد يصل إلى هذا الحد من الكلام حتى قطعت استرساله في الحديث
- لا ياحمد انك لم تحرق نفسك , بل زدت اشتعالا , أنت صديق مخلص له و أي امرأة تحب الرجل المخلص..
لم يصدق أذنيه ورفع عينيه لأول مرة عن الكوب الذي لازال يرتعش أمامه , ونظر إلى عينيها اللتان بللتهما الدموع , وقد بدا وجهها كأنها صحت من سبات عميق , وأردفت قائلة :
- إني اشعر الآن كأني أفقت من حلم جميل , ولكنه مجرد حلم , كان علي أن لا افقد واقعيتي التي اشتهرت بها , كان حبي لحسين مجرد انبهار
ظل احمد يستمع إليها كالمسحور وهي تردد
- لو لم تقل لي ذلك اليوم لقلته لك غدا , لطلبت منك الاعتذار لحسين
ظل كلام حنان يقع مباشرة في قلب احمد الذي ظل يخفق بشدة " هل من الممكن ان تتغير المعادلات بهذه السرعة والسهولة , حنان التي أحبها طيلة السنين تقول له ذلك الآن وهم على أعتاب التخرج " هم بأن يسألها إذا كانت هذه فعلاً حقيقية شعورها نحوه أم هي مجرد مجاملة اقتضتها الظروف , ولكنه طرد هذا الخواطر" هذا ليس أوانه " لابد أنها تعاني من صراع داخلي حاد الآن بعد أن تبددت أحلامها , نظر إليها في إشفاق , وقال مجاهداً بصعوبة رسم ابتسامة صغيرة
- ارجوا أن لا أكون أثقلت عليك بكلامي هذا
- لا أبداً , لقد أيقظتني من سبات عميق , إن الواقع مهما كان أفضل من الوهم , على كل حال كانت تجربة مفيدة لي لك وله , كانت مفيدة لنا جميعاً ..
قالت ذلك ونهضت ونهض احمد تاركين كوبا الليمون لم يمساه وتحركا خارجين الى الطريق ظلا يسيران صامتين ويردان تحيات الزملاء بطريقة آلية , إذا كان لا داعي للكلام , استنفذت اللحظات الماضية كل طاقتهما , خيل لكل منهما كأنهما يحملان أطنان من الحديد وعند باب مساكن الطالبات ودعها ولأول مرة يشعر بأنها صادقة في كل كلمة قالتها , وذلك بعد ان ودعته بنظرة حب كان مكتوم طيلة السنين , يحدث ذلك عندما تحب شخص ويظل هذا الحب محبوسا في ظلام اللاشعور , ولظروف معينة يحدث أن تطفح هذه المشاعر على السطح , حتى انك لا تصدق "هل هذا هو الشخص الذي كنت تعرفه من سنين أم انه شخص آخر جديد " جالت هذه الخواطر في مخيلته في طريقه إلى البركس , وارتسمت على وجهه ابتسامة رضا ..
وعند البوابة تذكر انه لا بد من زيارة حسين واطلاعه على نتيجة مقابلته لحنان , ويرى وقع ذلك على صديقه اللدود ، اعتلى الدرج قفزا نحو حجرة حسين , دفع باب الحجرة ليواجه الخواء والظلام , هزمه في قمة انتصاره يبدو انه كان لا يعير الأمر اهتماماً أم هناك ظروف قاهرة أدت لغيابه المفاجئ، انه حسين لا يخلف الميعاد ابداً ، تناول ورقه من على المنضدة التي اصطفت عليها بعض الكتب والمجلات الخاصة بحسين وسطر عليها الأتي
الأخ حسين
مساء الخير
انتهت الأسطورة بسلام ،نم سعيداً
أخوك احمد
استدار ،وانصرف في وقد عاد اليه سروره ثانيتاً وأخذا يصفر قافزا السلالم نازلاً وفي حجرته اندفع إلى فراشه لينام أول مرة خلال تاريخه الطويل بكامل ملابسه ..ولم ينعم بذلك كثيراً،سرعان ما شعر بان هناك يد تهزه لتوقظه، فتح عينيه و رأى صديقه ينظر إليه في توجس..
- ماذا بك .هل النوم بالملابس الرسمية أضحى موضة هذه الأيام
نهض احمد واستوى جالساً مفسحا مكاناً لحسين يجلس بجواره قال في اندفاع
ـ هل قرأت المذكرة التي تركتها لك في الحجرة
- أبدا لم اصعد بعد حضرت لتوي من السفارة.........
- السفارة !!
- الأمر يتعلق بالخدمة العسكرية
- الخدمة العسكرية !!
قالها احمد في دهشة
- نعم في العراق بعد الدراسة الجامعية نبقى عامين في الخدمة العسكرية
- إذا ستذهب إلى الجبهة ..هل تستطيع أن تقتل احد يا حسين؟
- لا تعيرني بذلك أنا لا أخشى الموت ، لكن أي حرب هذه ؟ هل تخاف أنت الموت ؟
- الموت .. أبداً ،رايته ماثلاً أمامي ..إن الجسد اللعين يحد من قدرة الروح على الانطلاق في عالم أرحب..ويقيدها في زمان ومكان ، إذا مات الإنسان .تحررت الروح من ثقل الجسد المادي ،ورحلت من عالم الأجساد الفانية إلى عالم الأرواح الخالدة..
نظر حسين في دهشة إلى صديقه
- من أين لك هذه الفلسفة العميقة ؟
- هذا جزء من ما علمه لنا الأستاذ الجليل طه .. كان يقول الموت زيادة علم، شاهدته بأم عيني يصعد إلى منصة الإعدام وعلى وجهه ابتسامة عريضة .... هل تستطيع مواجهة الموت وأنت تبتسم ؟
- لماذا تقتل السلطة العسكرية رجل كهذا ؟
- إن الحكومات المتسلطة لا تعرف التفريق بين التبر والتراب من يعارض يموت حتى لو كان بروفسور في الفيزياء النووية ومن يوالي ينعم بالسعادة ويتبوأ المناصب الحساسة حتى ولو كان لا يجيد غسل مؤخرته ..
- كان لنا عالم مثل هذا قتل أيضا بنفس الطريقة يدعي محمد باقر الصدر
- سمعت به وقرأت العديد من المؤلفات هذا الرجل الأسطورة ،كتاب "اقتصادنا"
- هناك تشابه في حياة الرجلين ،التمسك بالمبدأ حتى حافة القبر..
تنهد حسين ثم أردف ساهماً يجتر الذكريات قائلاً
- عندما اعدم الأمام الصدر، كنت صغير ولكن من بكاء والدتي المرير في ذلك اليوم وابتسامات والدي الساخرة عرفت هول الصدمة , اجتاح العنف مدينتي كربلاء والنجف واستشهد في ذلك اليوم العديد من أبناء الشيعة من مختلف الأعمار وكان من بين الشهداء خالي احمد اكبر أشقاء أمي ... مات الإمام ولم تمت الحقيقة , وظلت الأحزان تغمر قلوب أهلنا الشيعة ،يوما بعد يوم جرت محاولات عديدة انتقامية لاغتيال الرئيس , ضحى فيها أبناء الشيعة بأرواحهم .. كانت أمي عندما يستشهد احد أقرباؤنا بما في ذلك خالي احمد تبكي بحرقة فور سماعها النبأ وتظل تندب وتنوح لعدة أيام ثم تهدأ بعد ذلك وتردد أمام أبي بفخر واعتزاز " الحمد الله الذي شرفني بموتهم على ذلك النحو , لقد كنت أخشى عليهم الموت على فراش المرض كما يموت البعير لا نامت أعين الجبناء " كان ذلك يجعل أبي يتميز غيظاً ويصب جام غضبه علينا .
صمت كالمعتاد بعد حديثه المسترسل واخذ ينظر بشرود إلى صديقه الذي كان غارق في الاستماع والحزن يعتصره
- أنت يا صديقي تغمرني بالأحزان
- أنت صديقي وعليك حمل جزء من أحزاني على كاهلك
- اعذرني .. إني لا أقوى على ذلك .. نحن لم نتعرف على هذا النوع من القهر بعد..
- كفاكم الله شر نظام البعث ويستر عليكم وعضوا على ديمقراطيتكم هذه بالنواجذ
نهض حسين يود الانصراف بعد أن نظر إلى ساعته ولكنه تذكر شي ما
- لم تقل لي ياحمد ماذا فعلت مع حنان ؟
- ستجده مكتوب في المذكرة ... لا استطيع الإدلاء بأي أقوال في هذا الوقت المتأخر من الليل
- يجب علي الانصراف أكاد أموت من الإعياء
- أما أنا أكاد أموت من الكآبة ... تصبح على خير أيها الرفيق !!
- تصبح على خير أيها الكوز القذر
قال حسين ذلك ... وكما دأب دائماً بان ينعت صديقه بألقاب كيفما اقتضت الظروف أحياناً بالشيوعي المندس , وأحيانا بالكوز القذر ليثير أعصابه ..
- أخذت جرعات من السعادة تكفيني لاحتمالك من اليوم حتى يوم سفرك
كانت هذه آخر كلمات سمعها حسين وهو خارج ، بعد أن أغلق الباب خلفه ..
نهض احمد فوراً وبدا يغير ملابسه وذهنه يدور كالماكينة " إذا دقت ساعة الرحيل ..سيسافر حسين بصورة نهائية وان يلج الجمال في سم الخياط أسهل من خروج عراقي من العراق، لابد من سيعود يوما بأي كيفية , كانت جدة احمد تقول له دائما أن من يشرب من النيل مرة لابد أن يعود مرة أخرى ... طال الزمن أو قل وليشرب منه مرات ومرات" .












(7)
توالت الأيام تباعا وجاء اليوم الموعود، لم تتمالك حنان نفسها من البكاء وهي تراه يصعد سلم الطائرة العراقية الرابطة كاسر على مدرج مطار الخرطوم ، كان احمد يقف جوارها في صمت كئيب .
في هذه اللحظات التي لا يجدي فيها الكلام .. لوح لهم حسين وهو على الدرجة الأخيرة واندفع إلى داخل الطائرة، ابتعدت عربة السلم , بدأت الطائرة تتحرك لتغيب في أخر المدرج وتعود مندفعة كالسهم تشق عباب الفضاء , ظل يلوحان للطائرة حتى غابت في الأفق الغارب , كانت حنان تنظر في ذهول في الفراغ الممتد أمامها ورددت
- كأن الأمر كان حلماً ..
- أحياناً في لحظات الفراق تلبس الحقيقية بالخيال , وأنا أيضاً لا استطيع التعبير عما يدور في نفسي الآن ، لكن تعودت على ذلك , ودعت الكثير من الأصدقاء المحليون والأجانب آخرهم كان قبل سنوات يدعى مارك نيومان، انجليزي الجنسية ، أتى كطالب تبادل بين الجامعات، صداقة الأجانب حلوة ومرة في نفس الوقت ، تطور وعي وسلوك الإنسان وقد تمكنه من التعايش مع الناس في هذا العالم..العزلة غير المجيدة والانغلاق على أبناء الوطن أو القبلية أو المنطقة تورث التطرف والجهل أحياناً..
- ارجوا أن لا ينسانا فقد ألف المعيشة بيننا..
ظل الصديقان يتحاوران على الدرج حتى غادرا الصالة إلى فناء المطار واطرق احمد قليلاً ثم التفت إلى حنان
- حنان اعلم أن الوقت غير مناسب لكني عازم على الزواج بأسرع فرصة ،ترك رحيل حسين فجوة لابد من ملؤها وكان هو الوقود الذي أجج نار حبنا
- نعم أنا أؤمن بذلك , ولكن هل أنت مستعد للزواج ولم يمض على تخرجك سوى أيام معدودة
- لا تظني باني اعتمد على الشهادة الجامعية كي اشق مستقبلي , لي خالي ثري وهو سوف يؤمن لي العمل في إحدى وكالات السفر التي يمتلكها ..
قال ذلك وفتح باب السيارة لحنان وركبا وتحركت العربة لتغادر المطار وغرق كل منهما في شرود عميق , اندفعت العربة تشق شوارع الخرطوم التي بدت حزينة وشاردة , توقفت العربة جوار بيت حنان ونزلت وودعت صديقها بابتسامة ساحرة ، جسد فيها احمد كل مستقبله وأدرك أن السعادة قد تعهدته بصورة مذهلة وانطلقت العربة تشق الطريق واحمد ساهم في شرود عميق وأصداء صوت صديقه لازالت تتردد في مخيلته وهو يسرد مآسي بغداد التي بناها أبو العباس السفاح ،طيلة سنوات الدراسة الطويلة.... اثر المرور في الشوارع التي كانت يرتاداها في أيام الجامعة الجميلة , وأثناء شروده كاد أن يدهس مواطن بالسيارة فضغط على الفرامل بقوة وتذكر خلالها حادثة شبيهة لهذه جعلته يبستم عندما كان يسير مع صديقه على الطريق و وتعثر حسين واندفع إلى داخل الطريق كادت تدهسه السيارة فما كان من السائق الا انه سب صديقه زاعقاً "ابتعد عن الطريق يا حبلى!! " تذكر احمد كيف اكفهر وجه صديقه واخذ يسب ويلعن بصورة أدهشت احمد ولكنه بعد أن هدأ عرف كلمة حلبي في العراق كلمة بشعة تحوي الكثير من الازلال عندهم في العراق, ضحك احمد وانفق الساعات الطوال يشرح لصديقه الغاضب أنها لا تعني في السودان سوى كلمة عادية تدل على لون الشخص. ومع ذلك ظل حسين يرغي ويزبد يسب حتى وصلا إلى البركس .




(8)
مرت الأيام رتيبة ومملة لم يغير رتابتها إلا زواج احمد وحنان الذي جمع شمل جميع الأصدقاء القدامى .. وكانت ذكريات الجامعة هي حديثهم , كان لرسالة حسين التي أرسلها مهنئاً العروسين بالغ الأثر في إشاعة البهجة في نفسيهما .. كانا يتمنيان لو حضر بنفسه ،ظلت الرسائل المتبادلة بين الصديقين على كثرتها لا تعبر عن ما يدور في نفسيهما وقد عرف احمد من بعض الرسائل لحسين انه يتلقى تدريب شاق في معسكر للقوات المسلحة , حيث أرسل لهم صور بملابس التدريب كانت مسار ضحك الأصدقاء لفترة طويلة حيث بدا بشعره المحلوق تماماً أشبه بمعتادي الإجرام القدامى ... ظلت رسائله تحكي بالتفاصيل المملة من يوم دخوله المعسكر, و روى انه عندما طرحوهما رضا على بطونهم وانحنى عليهم جندي يحمل بندقية آلية وأطلق حولهم الرصاص ولأول مرة سمع دوي الرصاص على بعد سنتمترات من أذنه وهو راقد بلا حراك , كما لم ينسى أن يخبر أصدقاؤه عن المسافات الطويلة التي كان يزحفها تحت الأسلاك الشائكة وسط صيحات المدربين الساخطة، للذين لا يؤمنون أبدا بالأداء العسكري لخريجي الجامعات ويعتبروهم مؤهلين وفي حاجة إلى مزيد من التدريب الأكثر قسوة , وذكر انه حين غضب منهم احد المدربين قال لهم في سخط " الجيش مصنع الرجال فإذا كان أحدكم لا يثق في انه رجل لا يحضر إلى هنا " وذكر نزوله بالمظلة من ارتفاع ألف قدم ، كانت تجربة مخيفة للغاية حيث انه عندما كان سابح في الفضاء شعر بأنه نسر يحلق عاليا وتذكر كلام صديقه عن انفصال الروح عن الجسد , وخيل له انه روح تنطلق هائمة في الفضاء حيث كانت الأرض تحته والحقول كأنها مفرش مطرز بخيوط خضراء وصفراء وكان النزول بالمظلة متعه لا تضاهيها متعه , كما اخبره انه تذكره مرة أثناء التدريبات الدفاع الأعزل عندما صاح احد المدربين " ان الدفاع الأعزل يتطلب القوة والعزم وان لم تقتلهم قتلوك ".. تذكر قطاع الطرق الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن .... كانت الرسائل تتوالى تباعا حتى بعد أن وضعت حنان مولودها الأول الذي أسموه حسين وقد اخبر احمد صديقه بذلك في خطاب مطول فأرسل لهم طرد بالبريد فيه ملابس للطفل وأخذت رسائله تأخذ الطابع الجدي وأصبح حسين ضابط في الجيش وانضم إلى كتيبة المشاة التابعة للجيش السابع المرابطة شرقي البصرة وانقطعت رسائل حسين لفترة طويلة تصل إلى تسعة أشهر بعد آخر رسالة قال فيها انه في منطقة هور حويزة أوجس احمد خيفة , ولكنه كان يقاوم هذه الخواطر المزعجة التي تدور في ذهنه ... وهو جالس جوار سرير طفله حيث كانت حنان تعد طعام الإفطار , لم يخبر زوجته بانقطاع أخبار حسين حتى لا يسبب لها انزعاج كالذي يعانيه ولكنها كانت تسأله مرارا إذا كانت هناك رسائل منه , نهض من جوار ابنه وتناول إفطاره الذي أعدته له في صمت وعلى عجل وخرج .. ظل يقود سيارته في شرود حتى انه كاد أن يدهس احد المارة ووصل إلى الوكالة السياحية التي يعمل بها حيث دخل من بابها الدوار في خمول وجلس خلف مكتبه الفخم ولم تسعه الفرحة عندما لمح مظروف به طوابع يعرفها تماماً , أخيرا وصلت الرسالة التي كادت تزهق روحه .. خطف المظروف كأنه خشي أن يطير من يديه واخذ يقرا رسالة حسين التي كانت بها مفاجئة سارة , حيث اخبره إن سبب انقطاع خطاباته انه كان في خضم المعارك هور حويزة لصد الهجوم الإيراني الشهير الذي قرأ عنه احمد في بعض المجلات حيث كانت الصور البشعة للجنود الإيرانيين للذين قتلوا في الاهوار والمستنقعات واخبره انه قاتل أيام بلياليها و بأنه بقي له أيام في الجبهة التي يسودها الهدوء الآن وانه سوف يعود إلى بغداد وهو عازم على الزواج بأسرع وقت واخبره بان الدعوة مفتوحة لهم لزيارته في بغداد .. طوى أحمد الرسالة ووضعها في جيبه ونادى احد معاونيه وأمر بان يحجز له مقعداً في طائرة اليوم المتجهة إلى بغداد ،حيث لم يبق حسب تاريخ الرسالة سوى يومين للزواج ، اندفع خارجاً والدنيا لا تسعه من الفرحة ... ووصل إلى منزلهم ووجد حنان ترقد ساهمة جوار طفلها النائم .
زعق د بملء فيه وقفزت حنان مذعورة
- إني اعد لك مفاجئة
- ما هي هذه المفاجئة التي تجعلك تزعق كطرزان؟!
- نعم.. اشعر اليوم إني طرزان
قال ذلك وقفز على الفراش بحذائه، نظرت حنان إليه معاتبة
- هل أصابك الجنون ؟!
- ليس بعد .... وصلت رسالة من حسين
بان الارتياح على وجهها وردت مبهورة. الأنفاس
- لا اصدق ذلك .. هل هو بخير
- نعم بخير ويزعم الزواج .. ليس على خط النار بل في بغداد
- ماذا تنوي أن تفعل
- قررت السفر بطائرة اليوم , وأنت والصغير ستبقى مع أمك في أم درمان حتى أعود
- إذا كان ليس هناك إمكانية لذهابي معك سأنزل السوق وادخر له هدية
قالت ذلك وانصرفت إلى حجرة مجاورة ثم عادت وأخذت مفتاح السيارة وخرجت واستلقى احمد في فراشه وهو يحملق في السقف ثم نهض وشرع في تغير ملابسه وتناول ساعة المنبه وعدل جرسها على موعد قيام الطائرة التي ستقلع في الثانية صباحاً ثم استلقى لينام , لم يشعر بعودة حنان التي حضرت تحمل إكليل من زهور وكانت تعرف محبة حسين للزهور التي تعج بها مدينته بابل ونظرت إلى زوجها النائم في حب وذهبت إلى فراشها بعد أن تناولت أقراصها المعتادة حتى تنوم نوما هادئا .. ومضت الساعات بطيئة ... فجأة هب احمد مذعور على صوت بكاء حسين الصغير الممزوج بدوي جرس المنبه .. وكان ضوء القمر الذي غطته السحب يتسلل شاحباً إلى داخل الحجرة , وكانت هناك رياح خفيفة تداعب ستائر النافذة .. شعر احمد شعوراً لم يعرف مصدره ،نظر إلى زوجته التي تغط في سبات عميق بعد الحبوب التي تناولتها , نهض واتجه عند فراش ابنه الذي كان يبكى بحرقه وحمله بين ذراعيه واخذ ينظر إليه في توجس , وشعر أن هناك شي بارد يداعب ظهره قفز كالملسوع ،وجد حافة الستائر تذكر انه أغلق النافذة قبل النوم " أي روح جاءت لزيارته ليلاً و من الذي فتحه " ظل الشعور بالانقباض ينتابه وهو يهدهد ابنه حتى نام، نظر إلى ساعته تذكر موعد الطائرة ،وضع الطفل في فراشه ونهض وغير ملابسه على عجل وحمل الحقيبة وخرج وأغلق الباب خلفه بهدوء ولازال صوت الريح الخافت يداعب أذنيه وبدأت تمطر في الخارج بغزارة "رباه ما هذا الجو التعس ،هذه الأمطار ليست معتادة " عاد مرة أخرى إلى الحجرة وأغلق النافذة والبرق يمزق السماء في الخارج كأنه نصلاً حادا وملقياً ظلال موحشة داخل الحجرة , التفت إلى إكليل الزهور الذي كاد ينساه وتناوله وخرج تحت وابل الأمطار وفي الطريق لوح لسيارة أجرة تسير في ذلك الوقت المتأخر من الليل مترنحة وركب السيارة واندفعت نحو المطار ومازال الانقباض مسيطر عليه حتى عندما أقلعت الطائرة، بدت الخرطوم شاحبة من نافذة الطائرة،أشاح بوجهه عنها واخرج مجلة نيوزويك كان قد اشترها من المطار ودسها على عجل في حقيبته , كانت نظرة واحدة إلى غلافها كافية بان يلقي بها بعيداً، كانت تحوي صور بشعة للحرب العراقية الإيرانية ... صور يد آدمية لرجل أنطمر تحت التراب برزت اليد على السطح تلعن الظروف التي أوجدت هذه الحرب العبثية " لماذا قتلت يا قابيل أخاك هابيل وصنعت لنا هذا الإرث المشين؟!!" كان هذا آخر خاطر دار في ذهنه المشوش ومع أزيز الطائرة المنتظم استلقى في كرسيه وراح في سبات عميق .




(9)
كانت الأيام تمضي رتيبة على الجبهة الشرقية بعد تدمير الهجوم الإيراني الأخير , ظل حسين ورفاقه يجلسون حول خنادق يتبادلون النكات , كان حسين في كل صباح ينظر إلى العلم الذي يقف متحديا في الموقع ويتمنى لو كان احمد صديقه معه ليرى مدى شجاعة صديقه , كان شخصية محبوبة بين الجنود ،ظل يحكي لهم عن السودان وبلغت به الجرأة واخذ يحكي لهم مغامرات وهمية مع الوحوش في غابات إفريقيا والتماسيح في النيل ،ظلت قصصه هذه تجدد روح المعنوية بين الجنود وتخرجهم من دخان القذائف ورطوبة الخنادق الخانقة .
مضى أسبوع على رسالته الأخيرة إلى السودان وهو يتساءل "هل يا ترى ستصل في الوقت المناسب وهل سيتمكن صديقه حضور حفل زواجه؟" , كان يعد الأيام المتبقية عداً حتى جاء ذلك اليوم المشهود، قصفت المدفعية الإيرانية الموقع بشراسة واشتعلت النار في كل المواقع وتوالت القذائف تباعاً تحصد الأرواح والأطراف وصيحات الجنود تصم الأذان اندفع حسين نحو الخندق شعر بجسم يرتضم ببطنه بقوة ،جعل الألم يجتاح كيانه , أنهار على حافة الخندق والدم يملا فمه ودوي القذائف يترامى على إذنه كأنه قادم من واد بعيد ،نظر إلى موقع العلم بعينيه المحتضرتين , وهو لازال صامدا ًيرفرف وسط زوابع الغبار بنجماته الثلاث أنهار وقد اجتاحت الآلام جسده كله، نظر إلى العلم وابتسم وردد في نفسه الراحلة "ألا ليت احمد كان هنا ليرى كيف احمل الابتسامة للموت واني أيضا لا اخشى الموت , سأموت في الدفاع عن تراب وطني , ستحرر روحي و تصعد في الفضاء الرحيب وتذهب حيث تشاء إلى السودان إلى النيل وتشرب منه منه مرات ومرات " كانت هذه الأفكار تدور في ذهنه وهو مسجي على الأرض وقد صمتت المدافع وأغلقت أبواب الجحيم ولازالت تتداعي اليه أهات رفاقه الجرحى , وخيم الظلام على الموقع عندما حضرت سيارات الإسعاف لإجلاء الجرحى والشهداء , كان هناك وجه مألوف يحدق فيه في أسى ، يبدوا انه وجه صديقه عصام،الطبيب في السلاح الطبي العراقي "يا لمحاسن الصدف كان صديقه عصام آخر من شاهده في وداعه الأخير للدنيا الفانية ".














(10)
أعلنت المضيفة العراقية في مايكروفون الطائرة للركاب عن وصول الطائرة إلى مطار بغداد الدولي .. فتح احمد عينيه وتثاب واخذ ينظر حوله في دهشة، نسى أين هو الآن ،لقد هبطت الطائرة بسلام وبدا المسافرون في النزول، عند السلم نظر احمد إلى المدنية النائمة على الأفق " إذا هذه بغداد المدينة الأسطورية , لطالما نسج احمد لها في مخيلته صورة غامضة مما قراه عنها خلال دراسته في المدارس الابتدائية وكانوا يرددون" بغداد يا بلد الرشيد ومنارة العهد التليد" وعما كان يحكيه حسين عنها وكان يصورها كمدن ألف ليلة وليلة , حيث بساط الريح والقصور التي تحيط بها الحدائق الغناء , ظلت هذه الأفكار تدور في رأسه على سلم الطائرة , دخل صالة المطار الفخمة والذي كانت أنواره تتلألأ كحبات اللؤلؤ , انتهت إجراءات المطار وخرج إلى باحة المطار واستغل سيارة أجرة وانطلق إلى المدينة الغامضة , كانت المناظر تتوالى من نافذة العربة لعينه كالأحلام , كأنه يمتطي بساط الريح وان التاريخ قد رجع ألف عام إلى الوراء حيث كانت التماثيل تزين الميادين من كل صوب , قرأ في إحدى المجلات إن كثرة التماثيل في مدينة بغداد جعلت البعض يطلق عليها روما الشرق, المدينة تتثاءب مع خيوط الفجر الأولى وليس هناك اثر للحرب الطاحنة التي تدور في ذلك البلد العجيب انعطفت السيارة في شارع مضاء بصورة مبهرة شارع الملاهي " هذا لابد أن يكون شارع أبو نواس كما كان يقول حسين" , ابتسم في أسى ورجع بذاكرته إلى أيام الدراسة عندما اعتاد هو وحسين وبعض الأصدقاء في عطلة نهاية الأسبوع إقامة جلسة أسموها جلسة التداعي الحر , كانوا يتلفون حول زجاجة خمر من العرق السوداني الممتاز، كان الخمر يلعب برؤوسهم ويلتفت إلى صديقه حسين ويعيره بأنه لا يستطيع مضاجعة نملة !!
انه خجول لا يمكنه التعامل مع الفتيات وأن زوجته ستعاني من ذلك مستقبلا، كان يثور ويغضب غضبا شديداً وينهض صاعدا على المنضدة ويزعق فيهم بخطبه العصماء (( أيها الأوغاد،كبرت كلمة تخرج من فمكم، أنا أشرس فرسان شارع ابن نواس حتى أنهم يلقبوني بالديك لفحولتي الشديدة .. اذهبوا إلى بغداد واسألوا صديقي عصام إذا كنتم لا تصدقوني وان سلاحي هذا " وهو يشير إلى ذلك الجزء العزيز من الجسد ويردد مواصلاً خطبته "قادر على تدمير كل المواقع في شارع أبي نواس في بغداد وشارع الهرم في القاهرة وسبعة بيوت في أم درمان "
كان صياحه يملأ البركس آن ذاك حتى أنهم يضطرون لإسكاته بالقوة حتى لا يسمعه الإخوان المسلمين، أولئك المهووسون اللذين نصبوا أنفسهم حراساً للفضيلة , لكنه يظل يسب ويسخط حتى ينام وعندما يستيقظ في اليوم التالي ينكر كل ما قاله في جلسة التداعي الحر , ويقسم قسماً مغلظا حتى انه لم يسكر معهم , كانت هذه الذكريات تطرق نحو عقل احمد المتوجس , والسيارة تنساب في الشارع التي تنطلق منه الضحكات الماجنة، , أغمض عينيه واستسلام للذكريات , تذكر ذلك الموقف المخزن الذي جعل حسين يخبره بأخطر أسراره , كانا يجلسان سويا ذلك المساء وبينهما الزجاجة والكوب , اخرج احمد لصديقه الذي بدأت الخمرة تلعب برأسه شريط كاسيت كانوا قد سجلوا فيه خلسة خطبة صديقهم العصماء المكرورة , سمع حسين الشريط قليلاً , ثم أنهار ودفن رأسه بين يديه وبكى بكاء شديد وقال في أسى" إنكم على حق أني أعاني من هذا الرهاب الجنسي" لم يكن احمد يتوقع أن رد الفعل سيكون بهذه الصورة , ونظر إلى عينا صديقه التين غطتهما الدموع وقد احمرتا بفعل الخمر ردد حسين في أسى وبدا بتداعي تحت سيطرة اللاشعور المثقل بالآلام " في ذلك الزمن الأغبر وبعد رحيل الأستاذ الكردي رزقار الفاجع وسره معه، جلس والدي يكتب رسالة بصرامة ثم ناولني لها ونزلت معه إلى السيارة وفي الطريق نصحني بنصائحه الكثيرة ان أكون غلام طيب في بيت عمتي وأنها امرأة عصبية لانها لم تنجب أطفال ولا تحب الفوضى , وهناك عند بيت عمتي استقبلوني استقبال الابطال وحياني زوجها بفتور وجلست عمتي تثرثر مع والدي الذي نهض منصرفاً، كأنه بصقني هناك وجلس زوج عمتي يتأملني عن كثب في غير اكتراث , أخذتني عمتي إلى الحجرة التي سوف أقيم فيها في قصرهم المنيف , لقد كانوا من أثرياء الدولة ولكن من غير أبناء , كانت الحجرة مجهزة تماماً كأنها خلقت لي الملابس الأنيقة الكتب الملونة التي أحبها كثيرا وأدوات الرسم, تنفست الصعداء وأنا أدير بصري في تلك الرياش الفاخرة يبدوا أني سأنعم ببعض الهدوء بعيداً عن الزوابع الذي يثيرها والدي وفي الصباح حملت رسالة والدي وذهبت إلى المدرسة الجديدة وبدأت اتاقلم على الوضع الجديد ومضت الأيام رتيبة حتى جاء ذلك اليوم ،عندما انصرفت عمتي إلى السوق وتركتنا في المنزل , كان زوج عمتي مستلقي على الأريكة وهو يدخن سجائره البغيضة، كأنه ينتظر شخص ما , وبعد لحظات سمعت طرقا خفيفاً على الباب ،نهضت وفتحت الباب , كانت هناك امرأة في مقتبل العمر تقف خلف الباب ،كان لها جمال غجري وجسدها متفجر بصورة خرافية تحت ملابسها السوداء , تبدوا كأنها أرملة أحد ضحايا الحرب اللذين تعج بهم البلاد , سألتني إذا كانت عمتي موجودة، أخبرتها بان عمتي في السوق ونظرت من فوق كتفي إلى زوج عمتي المستلقي على الأريكة يطالع إحدى الصحف المليئة بصور الرئيس وانقضت علي المرأة وأوسعتني تقبيلاً كأني أحرزت هدفا في كاس العالم وأزاحتني جانباً ودخلت وحينئذ استوي زوج عمتي جالساً وذلك البريق المستعر يشع من عينية الماجنتين كان ينتظرها , يبدوا أنها تلك الأمور التي تحدث عادتاً بين الكبار ولا يحبون ان يطلع عليها الصغار ،قذف لي زوج عمتي ببعض النقود وطلب مني ان اشتري له موس حلاقة وعلبة دخان وتسللت خارجاً وأنا اركض في الشارع وعدت سريعاً إلى البيت ولكن للأسف إن زوج عمتي لا يجيد تقدير الزمن، حيث استغرقت رحلة الذهاب والإياب من البقالة إلى البيت خمس دقائق وهي لا تكفي لمضاجعة امرأة , بل أنها لا تكفي حتى للتعري التام , وللأسف الشديد عدت إلى البيت لأجد أبشع منظر رايته في حياتي , زوج عمتي جاثم على المرأة وهو يخور كالثور وقفت في مكاني وشعرت في جسدي رعدة لبشاعة المنظر , انتزع زوج عمتي جسده المشتعل من حضن المرأة ونهض مبهور الأنفاس واتجه نحوي , حيث كان يعاني من التوتر الأخير ملوثا كل شي المناضد والسجاد الفاخر وجلس جواري عاريا وهزني بعنف صائحاً " اياك ان تفعل هذا مع امرأة سوف يحرقونك بالنار .. مفهوم !!" أومأت موافقاً وأنا ارتجف رعباً ،ابتسم لي متشجعا وعيناه الماجنتين تمسحان وجهي البريء " الأطفال الطيبون لا يثرثرون مع عماتهم أو مع أي احد عن هذه الأشياء وإلا سيقطعون ألسنتهم .. مفهوم!!" ولم ادر إلى من يرجع الضمير هم الله وملائكته ام الحكومة، دفعني خارجاً واستدار يرتدي ملابسه كانت المرأة قد ارتدت ملابسها وانصرفت وهي ترمقني بنظرات حانقة ،عادت عمتي الطيبة عند الغروب وهي محملة بالأكياس واللفافات ،نادت علي بصوتها الحاد وناولتني قطع من الفاكهة الطازجة وهي تقلب محتويات الأكياس على الطاولة , كان زوجها يجلس عن كثب ولا يطيق النظر إلى ناحيتي , جلست عمتي في نفس المكان الذي كانا يتضاجعا فيه ولم تلحظ آثار المعركة التي تلوث المكان وبعد فترة من الزمن نهضت وهربت من نظرات زوج عمتي المتوعدة ودخلت حجرتي واستلقيت هناك على الفراش وأنا استرجع لحظات التوتر المخزي التي انقضت منذ لحظات , تملكني القرف ،ان للخيانة طعمها المر، تلك الأرملة لم تحترم ذكرى زوجها الذي مزقه الرصاص في ميادين الشرف , وهذا الرجل المرموق لم يحترم غياب زوجته لحظة , سمعت خطواته الثقيلة تقترب من حجرتي , دخل الحجرة وجلس جواري على الفراش وظل يحدق في بعينه التي يشع منهم بريق القسوة , كانت له عيناه قاتل محترف واقترب بيده الضخمة وعبث في شعري بود زائف ،تلك اليد الضخمة الدينصورية الشكل كم من الأرواح أزهقتها في السجون والمعتقلات ،تمتم بصوت متوعد وبنبرة تهديد واضحة " كل يوم سأحضر لك الكتب الملونة التي تحبها .. عليك أن لا تثرثر كثيراً مع عمتك " نظرت إليه في احتقار , انه يخشى الفضيحة ليس احتراماً لعمتي فقط بالإضافة إلى خوفه على مركزه الحساس , طمأنته باني لن أتحدث عن هذا الأمر حتى مع نفسي , تنفس الصعداء وانصرف .
عادت الحياة إلى رتابتها حيث تذهب العمة إلى السوق وتأتي الأرملة اللعوب ويمارسان اللذة المحرمة بعد أن اخرج وأهيم على وجهي في الشوارع وكنت أفكر في وجه الشبه والاختلاف بين خالي النقي الراحل حسين وزوج عمتي الملوث، كانت المقارنة شبة مستحيلة ،أشبه ما تكون بين المعارضة والنظام الجاثم في صدر البلاد حقباً وأظل انفق الساعات الطوال أدور بين الفيلات الفارهة لأشبع مخيلتي الإبداعية في رسم الزهور والطيور, كنت اتقي أن اجلس أنا الخيانة تحت سقف واحد , وعندما أعود أجد كل شي قد انتهى وعاد الأمر إلى طبيعته ماعدا الإرهاق الممزوج بشعور الذنب الذي يكسو وجهه , ليت الأمر استمر على هذا المنوال ولكن بعد ان اختفت الأرملة اللعوب فجأة من دون أي سبب وهذا سبب له التوتر وتعكر مزاجه , كان يأتي من العمل ويستلقي على الأريكة ويقرا صحفه المجللة بصور الرئيس ويدخن بعصبية ولا حياة لمن تنادي ثم مرضت عمتي فجأة ولزمت الفراش كنا أنا وهو نقوم بأعباء المنزل , رفضت عمتي وجود خادمة تساعدنا في المنزل وذلك لسوابق زوجها الكثيرة مع الخادمات وفي اليوم الخامس لمرض عمتي , في ذلك الصباح المشئوم، كنت اغسل وجهي في مغسلة الحمام سمعت خطواته خلفي لم اعرها الأمر اهتماماً، التصق بي بجسده المحموم ،صعقتني بالدهشة " هذا الرجل مريض حقاً، كيف يجرؤ على ذلك " استدرت مذعوراً ركع جواري واحتضنني بقوة وغمر وجهي بقبلاته المسعورة ،حينها أيقنت إني هالك لا محالة , انه لا يتورع عن عمل أي شي , حاولت دفعه بعيداً ولكن مقاومتي الضعيفة لا تفعل شي حيال قوته العارمة وأنقذتني العناية الإلهية ،سمعت دبيب خطوات عمتي المريضة تقترب من الحمام منادية باسمي ،حينها دفعني بعيداً عنه وانتصب واقفاً وقد تلاحقت أنفاسه وانتظر حتى هدأت أحواله وتسلل خارجاً، دخلت عمتي الحمام وجدتني اجلس مذعوراً ربتت على راسي وقالت لي " أين كنت أيها العاق ؟!!..ناديتك بكل ما أوتيت من قوة لتحضر لي فرشاة والمعجون وأنت قابع كالفار المذعور هنا " نهضت وناولتها الفرشاة والمعجون،سوكت اسنانها وانصرفنا سويا إلى القاعة الكبري , كان الوغد جالس كأن شي لم يكن، يقلب صفحات صحفه المملة وهو ينظر إلي بعينيه الداعرتين من فوق الجريدة ،التصقت بعمتي من الرعب , ومنذ ذلك اليوم أصبحت لا ابرحها لحظة , وفي الليل ظللت أغلق حجرتي بالمفتاح كنت اسمع خطاه تجوس في الردهة أمام الباب ، أحياناً يدير المقبض فارتجف رعباً في الداخل وفي إحدى مؤامراته الدنيئة وأنا ممد على الفراش أحملق في القمر المطل من النافذة , سمعت صوت ارتطام جسم صلب بحافة الشرفة، تسللت من الفراش بهدوء وفتحت الباب المؤدي إلى الشرفة ،كانت حجرتي في الطابق الأول ،وجدته يقف عند منتصف سلم الحديقة , كانت ساعة انتقامي ،دفعت السلم بكل ما اتيت من قوة واندفع السلم في الاتجاه المضاد بسرعة رهيبة ، سمعت صوت ارتطام جسده الثقيل بالأرض وأطلق انه خافته واخذ يسب ويلعن ويتوعدني بالويل والثبور وحينها أطلقت ضحكة مجلجلة كادت تجعله ينفجر غيظاً ونهض يحجل وقد اعتصره الألم المبرح الناجم عن التواء كاحله .
في الصباح لم تندهش عمتي لإصابة زوجها أو ملابسه المتسخة بالوحل الملقاة في الردهة، كانت عمتي لا تعرف الدهشة فهي امرأة طيبة والأناس الطبيون يفقدون الإحساس بالدهشة "إذا كان المرء طيباً ذهب نصف ذكاؤه "..هكذا يا صديقي عشت تلك الفترة الرهيبة في بيت عمتي ،أتفادى زوجها المنحرف وأتعجل انتهاء الامتحانات والعودة إلى البيت , أن والدي كان ارحم وبعد ان شفيت عمتي تماماً عادت الاستلام مهامها في البيت بجد ونشاط وبدا يحيك نوع آخر من المؤامرات كان يطلب من عمتي أن احمل له قهوة الصباح في غرفته وفعلاً أعطتني عمتي الصباح صينية القهوة وطلبت مني رفعها له , صعدت الدرج ارتجف ،عند الباب تسمرت في مكاني، كان يجلس متحفزاً ينظر إلي بعينيه اللتين يطل منهما بريق القسوة في استعطاف ، وضعت القهوة على الأرض واستدرت هارباً وأنا أتخيل وقع خطواته الثقيل خلفي على الدرج , أسفل الدرج أصدمت بعمتي التي نظرت إلي مبهورة ،أخبرتها بان مواعيد المدرسة قد حانت وفي المرات التالية مع إصرار عمتي أن احمل له الأشياء إلى الأعلى، وأحيانا يتعمد نسيان صحفه القذرة أو علبة الدخان أو نظارته التي يستخدمها في القراءة , وينادي علي لإحضارها كنت أختبئ حتى تحضر عمتي وتدفعها له وفي مرة طلبت مني عمتي أن ارفع له طعام الإفطار ،كان لابد من التخلص من هذا العبء الثقيل، تعمدت التعثر على السجاد الفاخر في الردهة وسقطت صينية الإفطار من يدي وتلوث كل شيء بالطعام السجاد والأرضية اللامعة ومنذ ذلك اليوم رفضت عمتي رفضاً باتا أن احمل أي شي ثقيل , وانقضت أيام الامتحان المدرسي بسلام ، كنت اخرج مع خروج عمتي إلى السوق ولا أعود إلا مع عودتها الشيء الذي أصابه بالإحباط فهو لا يستطيع ممارسة قذارته في الخارج خوفا على مركزه الحساس , ويفضل الصيد في الماء العكر .
وفي مساء اليوم الأخير حضر والدي وحينها لم تسعني الفرحة ،كنت اجلس في القاعة الكبرى أمام التلفزيون كان يجلس بجواري بينما عمتي تجلس على الكرسي البعيد تشاهد المسلسل المصري بطريقتها المستغرقة التي تجعلها لا ترمش ولا تسمع حتى ولو سقطت قنبلة ذرية على بغداد , كان يجلس جواري في تخاذل دون أدنى شعور بالذنب ويلقي علي نظرة بين لحظة وأخرى بعينيه الوقحتين ثم ردد بصوت هامس ..
- سأنال منك أيها العقرب الصغير!!
نظرت إليه في احتقار جعله يرتعد ولكنه أردف
- ستكبر يوما .. وتعود إلينا بقدميك !
أجبته بعد إن جمعت كل قوتي وشجاعتي
- إذا عدت إلى هذا البيت يوماً , ساخصيك أيها العجوز الفاجر ...
باغته ردي , لأنه لم يتعود طيلة حياته السقيمة أن يشتمه احد ويظل على قيد الحياة , ونظر إلي في دهشة وقهقه ضاحكاً وردد في نبرة تهديد
- ستكبر يوما وتمارس السياسة وحتما سنلتقي في مكان أخر..
ارتعدت فرائضي من هذا الوعيد , ودوي صوت سيارة والدي في الخراج نهضت وتنفست الصعداء وودعت عمتي بقبلة سريعة وهي لا تزال مستغرقة في العشر الدقائق الأخيرة الحاسمة من المسلسل واتجهت إليه لأودعه , احتضنني بقوة وغمرني بقبلاته وهو يذرف دموعه الأبوية الزائفة ويغمغم بكلمات الوداع المؤثرة , التفت عمتي فجأة وهذه أول مرة تفعلها خلال جلوسها بالسنين أمام التلفزيون لتجد زوجها يخمد أنفاسي ، زجرته بصوتها الحاد زجرة واحدة أطلق سراحي وهو يرتعد خوفا , فقد كان يخشاها أكثر من الرئيس نفسه , انطلقت كالعصفور إلى الخارج واندفعت إلى سيارة أبي بعد أن أوسعته تقبيلاً " كم أنت رحيم يا أبي " وجلست بجواره وانطلقت العربة تشق شوارع الحي الثري وقلبي يلعن كل تلك المنازل التي يسكنها المستنفذون من كبار رجالات الدولة وكان والدي في الطريق يعدد لي محاسن وأفضال زوج عمتي ومكانته الرفيعة في المجتمع العراقي كان بعبعاً يخيف الجميع وأنا استمع في صمت وعقلي يسترجع كل المواجع التي عايشتها في قصر زوج عمتي المخيف , ثم تليت على والدي التقرير الكامل عن وجودي السعيد في بيت عمتي مع زوجها الطيب ،كان التقرير أشبه بتلك التقرير التي ترفع للحكومة عاري من الصحة تماماً وخشيت أن افشي السر له ويعود بي مرة أخرى إلى حجرة الفئران المظلمة .
وفي البيت ارتميت في حضن أمي وبكيت بكاءاً مريراً ،بكيت على كل لحظة من لحظات الرعب التي عشتها في بيت عمتي مع زوجها السفاح .
"كما ترى يا عزيزي في بلادي عليك أن لا تتحدث في السياسية حتى لا تغتالك السلطة , ولا تحادث الغرباء حتى لا يقتلك معتوه وان تبكى بكاء مرا حتى لا تنفجر غيظاً , لقد أورثني زوج عمتي كل الأمراض النفسية المتعلقة بالجنس التي أعاني منها الآن وأصبحت كلما اقتربت من امرأة اشعر بشعور غريب وأشاهد النار أمامي , وكلما اقترب مني رجل تملكني رعب قاتل".. نظر إليه احمد في أسى وردد بصوته الثمل
- لا بد انك تعاني من برود جنسي نفسي المنشا كما يقول فرويد
حدق حسين في صديقه في سخط وردد
- كان يجب عليك أن تستعمل ألفاظ اقل وقعاً على نفسي أيها الوغد ..
ابتسم احمد في خبث وردد في نبرة طبيب نفسي
- هل ينتصب عضوك صباحاً عندما تمتلئ مثانتك بالبول ؟!!
نهض حسين ساخطاً وهو يحدق في صديقه والشرر يتطاير من عينيه المخمورتين
- انك تجعلني بعد كل اعتراف اشعر كأني عاري أمامك.. إذا تقمصت شخصية الطبيب النفسي مرة أخرى سانشب أظافري في عنقك واجعل الزبد يخرج من فمك وأمعاءك تخرج من مؤخرتك..
تنهد احمد في أسى ونظر إلى صديقه نظرة لا مبالاة , أنهار حسين جالساً مزعناً للهزيمة , أيقن إن ثورته هذه لا تخيف نملة وقد اعتادها صديقه وأصبحت لا تحرك شعرة من شعر رأسه , دفن وجهه بين يديه وغرق في تأملاته الكئيبة وعادت أنفاسه منتظمة كما كانت , وأطلق عقيرته بالغناء العراقي الجنائزي الحزين" ردتك تخلصني من أحزاني .. ردتك وما ردت غيرك تاني" الذي يسبب لصديقه حالة حادة من الإحباط،ظل احمد ينظر إليه عبر الزجاجة التي غدت فارغة إلى ثلثاها على المنضدة التي تفصل بينهما بينما كان يعتصره الألم , كل محاولاته لتخليص صديقه من مستنقع الكآبة الذي يعيش فيه تعود بنتائج غير طيبة , صديقه يريده الاستماع إلى اعترافاته فقط من دون إبداء رأي, فجأة توقف حسين عن الغناء بعد أن هبط بمعنويات صديقه إلى ما دون الصفر حتى "أغاني هؤلاء العراقيين تدعو للانتحار من فرط سوداويتها".. تثأب حسين ونهض في تثاقل والتفت إلى صدقه متوعداً
- سأنام هذا اليوم هنا .. وعليك أن تبحث عن مكان أخر
نظر احمد إلى صديقه في حيرة وأذعن للأمر
- تفضل نام في يا أمير بغداد
اتجه حسين نحو الفراش وانطرح عليه حتى دون أن يخلع حذاءه وخرج احمد يترنح " تباً لهذه الخمور البلدية " كان يشعر بالدوار والغثيان حاول الاقتراب من الدرابزين , اختل توازنه وهوى من الطابق الرابع , كانت الأرض تقترب بسرعة رهيبة" اللعنة لقد اغتاله العراقي ".. انقطعت أنفاسه وهو يهوي في الفضاء ولحسن حظه كان هناك امتداد لمسجد أسفل المبنى مصنوع من قماش الخيام , سقط في منتصف السقف وتكرش القماش داخل المصلى، فر المصلون إلى الخارج مذعورين من هذا الجسم الغريب الذي سقط من السماء على سقف القماش , لم يجرؤ احد على الصعود لمعرفة ما حدث واستسلم احمد للنوم في هذا المكان الغريب حتى الصباح , استيقظ حسين أولاً واطل من الشرفة كادت تصعقه المفاجئة , شاهد صديقه متكوم على سقف المسجد .. ادهشه ان يختار هذا المكان الغريب للنوم دون خوف من الاخوان المسلمين المتوجسين اللذين يصلون الفجر ،ابتسم واتجه صوب الحمام .
ظلت هذه الذكريات المريرة تطوف بخاطر احمد والسيارة تنساب به في شوارع بغداد الهادئة , حتى انه لم يشعر بتوقف السارة أمام منزل أنيق , التفت السائق مخاطباً احمد بلهجته العراقية الودودة
- هذا هو العنوان !
نزل ونظر إلى المنزل الذي يلفه الهدوء وتحركت السيارة مبتعدة ,كان المنزل مكون من طابقين وله باب خارجي , ضغط احمد على الزر وهيأ نفسه لاستقبال صديقه بابتسامة عريضة وسمع وقع خطوات قادمة خلف الباب وانفتح الباب وأطلت منه طفلة في الخامسة من عمرها تقريباً يبدوا أنها ابنة أخت حسين لمياء , نظرت الطفلة إلى الزائر الغريب في فضول وأفسحت له الطريق ليدخل , دخل احمد القاعة الكبرى , كانت هناك امرأة في مقتبل العمر تقف عند الدرج الداخلي للسلم مجللة بالسواد , ولأول وهلة يفطن احمد للسواد الذي يخيم على المنزل , واخذ ينظر حوله، لمح صورة حسين المغطاة بالسواد والمعلقة على الجدار اقترب من الصورة , وعندها اغرورقت عيناه بالدموع وأنهار على الأريكة ينتحب في بكاء مكتوم ,هرع كل من في المنزل إليه، بدأت حركة غير عادية لمقدم الزائر الجديد و المألوف , لقد اخبرهم عنه حسين بكل شي عنه طيلة دراسته في السودان وأعطاهم أيضا صور احمد والأصدقاء.." إذا كانت هذه النهاية غير المتوقعة , استشهد حسين في الحرب على ما يبدو وبسام أيضا زوج شقيقته التي تقف عن كثب وقد التصقت بها ابنتها الصغيرة )
اقتربت أم حسين منه وربتت على كتفه برفق
- لا عليك يا ابني مات ولدي في ميدان الشرف
نظر إلى وجه أم حسين الطيب وتذكر كل اللحظات العصيبة التي عاشتها تلك المرأة العظيمة كما كان يحكي له حسين , ونظر إلى والد حسين كان هو أيضا في حالة يرثى لها من التعاسة , اقترب والد حسين وردد بصوت معدني وبلهجة عراقية حزينة :
- لا عليك يا بني .. انهض لنستريح في حجرة صديقك
والتفت إلى أمل وأمرها أن تحمل الحقيبة وتقوده إلى حجرة حسين , نهض احمد في إعياء وتحرك خلفها وابنتها التي حملت إكليل الزهور وانطلق بخطى مضطربة إلى غرفة حسين , هناك في الحجرة كان كل ما فيها يدل على أنها حجرة حسين , تشبه بحجرته في الجامعة , البوسترات الضخمة على الجدران الرسومات والزهور , المجلات والكتب التي كان حسين يحبها كثيرا متناثرة في كل مكان ،يبدوا أن أسرته آثرت أن تترك كل شي في مكانه تخليدا له , وانصرفت الفتاتان وأغلقتا الباب خلفهما وانكفأ على الفراش وراح في سبات عميق ..مرت الساعات تباعاً , استيقظ واخذ ينظر حوله لا يدري أين هو الآن , تمنى أن تكون جميع الأوقات السابقة مجرد كوابيس مزعجة , فتح عينيه عادت له الأشجان مرة أخرى .
كان الليل هادئ والقمر بازغ ، إذا لقد نام كثيراً , بدأت تمطر في الخارج والبرق يلقي ظلال موحشة داخل الحجرة المظلمة ،بدأت الريح تعبث بالستائر ،شعر كأن هناك روح شخص ما هائمة في الحجرة لابد أن تكون هذه روح صديقه جاءت لتزوره , ابتسم في الفراغ أمامه , خيل له انه سمع همست يحيه , شعر بان كل محتويات الحجرة تحيه وتبتسم له ولأول مرة شعر بذلك السلام الداخلي العميق الذي اجتاح كيانه سكنت نفسه وامتلأت بالرضا , ظل في تلك الحالة ولم يقطعها إلا صوت خافت لصرير كرسي متحرك يسير في الدهليز وانفتح باب الحجرة , دخل شاب عراقي وسيم موفور الصحة جالساً في كرسي ذو عجلات " رباه لا بد ان يكون هذا عصام!! ..ضحية اخرى من ضحايا الحرب ".. عصام الطبيب وبطل الرياضة في المدرسة كما كان يقول حسين
- مساء الخير
- مساء النور
رد في أسى وهو ينظر إلى الشاب الذي يجلس أمامه وقد تدلى وسام على صدره
- أنا عصام دكتور في السلاح الطبي العراقي , اخبرني والد حسين بقدومك , حضرت لا تعرف عليك ،لقد اخبرني حسين عنك كثيراً ..
- أنا سعيد بمعرفتك يا دكتور عصام ويبدوا أننا سنقضي أوقات طيبة حقاً
انفتح الباب ودخل والد حسين وبقية الأسرة والتفوا حول فراش أحمد
- هل تشعر بتحسن الآن ؟
قال والد حسين ذلك بصوته العميق وهو ينظر إلى احمد في إشفاق
- نعم يبدوا أن اثر الصدمة انحسر ....لم أتوقع ذلك لقد جئت لأمر مختلف جدا
- أنها إرادة الله .... والخير فيما اختار الله..
قال والد حسين ذلك والتفت إلى بقية الأسرة :
- هيا بنا إلى قاعة الطعام ارجوا أن تعد نفسك للعشاء معنا .....
دفعت امل كرسي عصام وخرجت ومن خلفها بقية الأسرة، نهض وغير ملابسه , ونزل لتناول الطعام مع بقية الأسرة , في الطابق الأرضي كان العشاء مهيباً حيث اخذ الجميع يتناولون طعامهم في صمت ،حانت من احمد التفاته إلى صورة حسين على الحائط خيل له انه يبتسم له فبادله الابتسامة , ثم انهمك يأكل في صمت وبعد العشاء المهيب رجع احمد إلى الحجرة وجلس على حافة الفراش وأخذ يحملق أمامه وأخيرا استلقى لينام مرة أخرى نوما هادئاً حتى الصباح..
كانت الحدائق مبهجة في ذلك الصباح الساحر , واحمد يدفع الكرسي ذو عجلات أمامه لدكتور عصام ،هذا الشاب غير عادي كما كان يخبره حسين فهو يحب الشعر والقصص وقلبه مفعم بهموم العالم , دفع الكرسي تحت ظلال شجرة وجلس قبالته عصام يتسامران
- في ذلك اليوم كان الظلام دامساً عندما حضرنا إلى الموقع الذي كان لا يزال يتصاعد منه الدخان وبدأنا في أجلاء الجرحى والقتلى، وجدته في اللحظات الأخيرة , حتى انه لم يعرفني كان يهذي بكلمات غربية , ظل يجاهد الابتسام , وعلى ما اذكر انه ذكر اسمك كثيراً
- لا استطيع أن اشرح لك لماذا كان يحاول الابتسام فهذه قصة طويلة وتحدي بيننا..
- وعند تفتيش ملابسه عثرت على وريقة صغيرة لا زلت احتفظ بها إلى الآن .



قال عصام ذلك وادخل يده في جيب سترته العسكرية واخرج ورقة وناولها إلى احمد الذي اختطفها في شوق وفتحها :
عزيزي أحمد
أن الكلمة عاجزة عن التعبير عن المعاني الكبيرة في الحياة لأنها لبست سوى حروف اقترنت بأشياء تعارف عليها الناس وعلى تسميتها , ولكن تبقى المشاعر الممتدة من الفرات إلى النيل هي اللغة الحقيقية والفعل الصادق الذي يجلس في النفس فيوقد من الروح توهجها ورونقها ونورها وبهجتها فتهيم في الوجود السرمدي , ويبقى الاستشهاد في سبيل الوطن أسمى غاية في الوجود وعلى الأرض السلام..
أخوك حسين
25 /1/1987
أغرقت عينا احمد بالدموع , عندما قرأ آخر رسائل صديقه التي لم تصله ثم نظر إلى عصام في امتنان :
- أسديت لي معروفاً عظيماً , يرحمك الله يا حسين الطيب
ابتسم عصام في رفق ثم غطى وجهه بالحزن عندما طاف بعقله خاطر ويبدو كأنه نساه
- كنت في الماضي ضربته يوما ضربا مبرحاً حتى سالت منه الدماء بسبب حب طائش تورطنا فيه سويا
- أحقا ضربت حسين ؟
- نعم .. كان ذلك أسوا عمل قمت به في حياتي , ذكره لي وهو يحتضر بين يدي أترى ماذا قال؟!
تنهد احمد في أسى واستعد لمزيد من الآلام وأردف عصام
- قال لي بالحرف الواحد " لم أذق طعم النوم ليليتها من جراء الآلام المبرحة الذي كانت تمزق أصبعي المكسور وجسدي المرضوض وقلبي المفطور"..
تنهد عصام وقد امتلأت عيناه بالدموع وردد
- احتضنته بقوة وبللت وجهه بدموع النوم , وطبعت على جبينه قبلة أخوية صادقة وقلت
"اغفر لي يا شهيد يا بغداد "نظر إلي بعينيه الشاخصتين وهمس وصوته يتردد في الأبدية " غفرت لك يا زعيم المعدان* "..
تنهد عصام في أسى وأطلق زفرة حارة
- وبعد ذلك بشهرين , كنا نجلي الجرحى في منطقة أخرى في طريق العودة انفجر لغم في سيارة الإسعاف التي كنت بداخلها لم اشعر بعدها بشيء إلا وأنا في المستشفى العسكري وقد دخلت شظية في عمودي الفقري , وأصبحت مقعداً كما ترى
- يا لهذه الحرب القذرة !!
- أصبحت بلادنا مسرحا لتجارب الدول الكبرى والغريب في الأمر أن الدول التي تدعي أنها متقدمة تصنع الأسلحة وتتبع أساليب خسيسة لافتعال الحروب في دول العالم الثالث لتبيعه
قال عصام ذلك في حنق وهو يحدق بعيداً
- أنها لعبة الدول الكبرى .. كان الله في عون الجميع
تنهد عصام في أسى وهو يواصل ذكريات الحرب
- لازلت اذكر جثث هؤلاء التعساء التي كانت تغطي المستنقعات بعد تدمير الهجوم الإيراني الأخير
- شيء مؤسف حقاً
- نعم , إنهم قوم طيبون،لولا ولاية الفقيه المتزمتة لديهم والجمود العقائدي البعثي القومي لدينا،لما نشبت الحرب..
- هذه الايدولجيات أدخلت المجتمعات في موات سريري وأخرت الديمقراطية كصيرورة وحتمية تاريخية..
- لن تأتي الديمقراطية أصلاً والتي فيها خلاصنا ما لم تؤسس ثقافة المجتمع المدني..
- نعم الدولة المدنية في مستوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وليس التصورات التي تعج بها أدمغة نخبنا المتكلسة
- لقد عرف أبو العلاء المعري ثقافة المجتمع المدني قبل أن يكتشف كريستوفر كولومبس أمريكا..
- تعني قوله: إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا للرؤساء كالذي يقوم بجمع الزنج في البصرة والقرمطي بالإحساء
- هذه الحرب الدائرة ألان بين نظامين وليس بين شعبين ولا أكن أي عداوة للشعب الإيراني وهم أيضا كذلك..
- هل تعاملت مع جرحى إيرانيين؟
- نعم..وكان ذلك في إحدى المرات التي كنا في الجبهة أيام المعارك العنيفة , وجدت احدهم كان مسجى عن كثب , ضخم الجثة بصورة غير عادية أحشاؤه ممزقة شفتاه ترددان شي بالغة الفارسية , ركعت بجواره، رفعت رأسه بين يدي نظر ألي في أسى , كانت نظراته خالية من أي بادرة حقد أو كراهية , نظر إلى بعينيه المحتضرين ووجه الشاحب ،كان في الرمق الأخير , ظل يردد بلغته الفارسية كلمات فهمت معها انه يدعو لنفسه ولي بالرحمة , أشار بيده المرتعشة إلى احد جيوب سترته العسكرية ،فهمت انه يريد أن اخرج شي من جيبه , أدخلت يدي في جيبه، أخرجت مصحف صغير ثم مفكرة وعندما راني احمل المفكرة بين يدي ابتسم بصعوبة همس لي بلغة عربية مكسرة انه يريد أن يدفن في النجف الأعظم , وفاضت روحه , نظرت إلى وجهه وقد حللت به رهبة الموت , وبحكم عملي في إجلاء الجرحى والقتلى عايشت كثير من حالات الاحتضار من الجانبين الإيراني والعراقي ولكن كانت هذه من الحالات التي مزقت قلبي عولت على نفسي منذ اللحظة أن أنفذ له وصيته ، حملته ووضعته بين الجرحى رغم خطورة هذا العمل تم نقلنا إلى البصرة وهناك قمت بتهريب الجثمان من المستشفى العسكري بسيارة نقل بعملية تكاد تكون بوليسية وصلت ليلاً إلى النجف حيث واريته الثرى هناك وبعدها بحثت عن عنوانه في المفكرة وبعثت برسالة إلى أسرته تفيد بوفاته , جاءني الرد متأخراً بعض الشيء من شقيق له يدعى مرتضى يقيم في لندن، كانت رسائله التي توالت تباعاً مؤثرة , حكى لي قصة فرزاد الجندي الإيراني الذي احتضر بين يدي , قال لي :- أن فرزاد كان الابن الأثير لدا والدي عندما ولد في عيد النيروز ،حمله والدي إلى العرافة قالت له العرافة " ان هذا الغلام لن يعمر طويلاً فهو ليس من أهل هذه الدار".. انزعج أبي من ذلك كثيرا , كان يخاف عليه من خطر النسيم , نشا محبوبا بين جميع سكان القرية حتى بلغ مبلغ الرجال , كان النساء يتمنينه زوج لبناتهن , كان الرجال يتأملون قامته الفارعة القوي بإعجاب ويتمنون لو أنجبوا ابن مثله , كان ذلك يحز في نفس أبي كثيراً ،ظل يخشى عليه من الحسد والعين ومضت السنين تباعاً , وفي ذلك الصباح استيقظ أبي منزعجاً وقال " إن فرزاد ليس عليه أن ذهب إلى المدرسة اليوم " وقد نوه أبي لذلك كثيراً ولكننا نسينا وصية والدنا وكنا من الظالمين , فقد ذهب إلى المدرسة وحضر مسئولو التجنيد وسجل اسمه مع متطوعين الحرب دون أن ندري وفي اليوم التالي , ترك لنا رسالة وقبل والدي ووالدتي بصورة أثارت شكوك أبي وخرج مع مواكب المتطوعين في طريقه إلى الجبهة , وسط هتافات أهل القرية , واستشهد هناك كما تعلم في اليوم الذي مات فيه شعرنا بذلك , حل البؤس بالقرية اجتاحت الأعاصير والفيضانات كل شي كأنما الطبيعة نفسها فجعت فيه , لم يجف الدمع عن عيون أبي قط ،تمزق قلبه عليه ،كان يحبه حبا جما , يرى فيه شبابه ورجولته في الزمن الغابر , كان والدي يردد" أن فرزاد أعاد أمجاد أسلافه الأشداء" , وثكلته نساء القرية أيضا..وفي الختام لا يسعني إلا أن اعبر لك عن امتناني بالدور الإنساني الذي قمت به , لقد سر والدي كثيراً ودعا لك بالخير والعافية حتى لحق به بعد شهور ،مات حزناً عليه ، الذي أنطفا كالشمعة في حرب ليس لها معنى ..
عندما فرغ عصام من سرد قصة فرزاد حفرت جروح عميقة في نفس أحمد , حتى تلك اللحظة كان يعايش الجانب العراقي للمأساة , أما اليوم فقد اطلع على الجانب الإيراني الذي لا يقل مأساوية عن فقدان صديقه العزيز حسين , نهض في تثاقل ودفع الكرسي المتحرك عبر الحديقة في الطريق إلى البيت مع الأفق الغارب ،تذكر احمد أمراً أثار فضوله
- ما الذي غير والد حسين هكذا؟!
- هل أخبرك حسين عن أبيه؟
- نعم..ولكني أرى فيه ألان هدوء حزين..
- اعتقل عن طريق وشاية من مخبر،في أمر يتعلق بالبضاعة كما تعلم أن له متجر في السوق،لمدة أشهر ذاق فيها جحيم النظام الذي كان يؤيده حتى الثمالة، كادو أن يقطعوا يده مع آخرين،لو لم ينقذه زوج أخته المتنفذ في المخابرات ومنذ خروجه من المعتقل وهو هكذا..مكسور الجناح..
تنهد احمد وحدق في الأفق الذي يجلله الشفق الدامي , كانت هناك أسراب من الطيور المهاجرة على الأفق تطلق أصواتها التي تشبه بالنواح كأنما تبكي على حال أهل ارض السواد .





(11)
لا أنين في هذا المكان ولا جراح ولا دموع ولا بكاء و لا نواح , هنا يرقد في سلام ألاف الشهداء من أبناء هذا البلد وقد رحلوا مفعمين بندا الواجب , كانت المقابر ممتدة إلى ما لانهاية بأحجارها البيضاء وأحمد يسير مع أسرة حسين وصديقة عصام في صباح تلك الجمعة ،ألهبت هيبة المكان ورهبة الموت مشاعره ،كانت أسرة حسين تتقدم وسط القبور في ثبات
وصلوا إلى قبر الشهيد حسين الراوي.. استشهد في معارك غرب بحيرة الأسماك(الحصاد الأخير) يوم 31/01/1987 , فاضت الدموع من عيني أحمد وتراقصت الكتابة التي على شاهد القبر أمام ناظره , تناول أكليل الزهور من لمياء الصغيرة ووضعه على المقبرة ونهض مبتعداً مودعاً صديقه والدموع تغطي عينيه حتى انه لم يستطع أن يرى الزهور التي غطت القبور , "أنها ليست مآتم أنما أفراح فليناموا في سلام فهم ليسوا سوى ضحايا للطموحات المريضة والحروب العبثية , ولنضع مليون زهرة على قبور الشهداء اللذين هم أكرم منا جميعاًَ ولتكن هذه الزهور هي زهور بابل ..
1991 الحديدة،الجمهورية اليمنية

انـتـهـى