كانت الشمس كئيبه بعض الشيء عندما استيقظت مبكراً ذلك الصباح على صياح عم نواف جارنا الكويتي الذي يؤجر لنا جزء من داره نقيم فيه أنا وصديقي إبراهيم ،عم نواف رجل طيب توفت زوجته منذ أمد بعيد وتركت في نفسه جروح لاتندمل, ماتت حزناً .. على ابنها الذي مات في حادث مروع , صدمته دراجة نارية وذلك في يوم أغبر أخذهم عم نواف إلى الحديقة بعد انتهاء العام الدراسي , كما عودهم دائماً مع شقيقتيه عاد إلى المنزل من غير بسام , صدم ذلك زوجته وماتت مأسوفاً عليها , فأصبح عم نواف يتعلق بابنتيه تعلقا شديداُ جعله يرفض حتى فكرة رحيل ابنته سعاد بعد زواجها من صديقي الدكتور الصيدلي محسن , كان عم نواف يعمل موظف حسابات في بلدية الكويت وكالمتعاد كل صباح اتجه عم نواف نحو إبراهيم النائم وصب عليه الماء البادر عم نواف يحب إبراهيم كابنه تماماً ،هب إبراهيم مذعوراً وهو يئن .
- لا ياعم نواف !!! إني اليوم مرهق جداً .
- أنهض ايها السوداني الكسول : ذهب ملك الأرزاق وتركك نائماُ .
- لكن لم أذق طعم النوم منذ ثلاث أيام وأنا أقود تلك الشاحنة اللعينة .
نهض إبراهيم في تثاقل وافسح لعم نواف مكاناً بجواره, إبراهيم من السودان , رجل عرك الحياه وعركته ,عاش طفولة يتيمة عمل بالجيش السوداني في مقتبل العمر, كان يقود الشاحنات العسكريه عبر حقول الألغام أبان الحرب الاهليه في جنوب السودان,ترك العمل بالجيش وهاجرإلى العراق إلتقى بشقيقى التؤم حسام.. حاربا مع العراقيين في الحرب العراقيه الأيرانيه, كان يقود مع شقيقي نفس الشاحنات عبر حقول الألغام الأسلاك الشائكة المكهربة ولكنهما سأما العمل بعد أن وضعت الحرب أوزارهاوقررالتسلل إلى الكويت للبحث عني ,مات أخي التوأم برصاص حرس الحدود وتمكن إبراهيم من العبور والوصول ألى الكويت,أخبرني ان ذاك بأن اخي أرتكب غلطه في الظلام الدامس أشعل سيجاره كانت كافيه ان ترديه قتيلا برصاص حرس الحدود وكان ابراهيم قد حذره مراراً من اشعال السجائر في المناطق العسكرية وقد عرضهم في الماضي إلى قصف إيراني مركز أدىإلى تدمير الشاحنه التي كانا يقوداها بالتناوب, بسبب ضوء السيجاره.قام إبراهيم بدفن أخي في الصحراء الموحشه وتسلل مع خيوط الفجرالأولــى الى الكويت وهنا لم يألوا جهدا في البحث عني وجدني بسهوله علـــى ضوءالعنوان الذي كنت أراسلهم بــــــــه أبان تواجدهم في العراق ومن خلال علاقتي الطيبه بعم نواف وجدت له عملا في شركة نقل كويتيه كسائق وهو سعيد بعمله الآن , تركت الصديقان يتناوشان ونهضت أرتدي ملابسي إذ لم يبق على موعد الدوام الصباحي للمدرسة سوى نصف ساعة , اليوم أشعر بانقاض لا أدري له سبباً لا يشبه ذلك التوجس الذي أشعر به كل هذا اليوم بالذات من كل عام حيث ستقام اليوم المباراة الختامية بين مدرستنا ومدرسة الضاحية الغربية مدرسة محسن صديقي اللدود السابقة , كانوا قد انتصروا علينا في العام الماضي وأخذوا الكأس وتركوا لنا الدمع المر , أنا مدرس مادة الأدب الإنجليزي في المدرسة والمشرف على الفريق الأول في المدرسة التي تضم لاعبين من أفضل طلاب الصف الثالث الثانوي الأدبي هما وليد وطلال ..كان عم نواف يحكي لإبراهيم حلماً مزعجاً شاهده بالأمس مما جعله منقبضاً حتى الصباح , هوٌن إبراهيم عليه أمره .. إبراهيم يدعي دائماً تفسير الأحلام ويسبب ذلك لصديقنا نواف السعادة أحياناً وتارة يصيبه بالفزع الشديد ..
* * *
رن الجرس الصباحي وتدافع الطلاب أمامي الى داخل الفصول بعد أداة الطابور , كان يشرف عليه اليوم الأستاذ عبدالودود من مدينة المنصورة التي تبعد عن قريتنا في مصر ثلاث أميال تقربياً , دخلت الفصل الثالث الأدبي , كان ضجيج الطلاب وأصوات المناضد يصم الآذان ولازلت أعاني من حالة الانقباض الغريبة التي انتابتني هذا الصباح , نظرت في أسى ومسحت بعيني الفصل بحثاً عن الطالبين الممتازين طلال ووليد , كان وليد بادي الأضراب لأنه تسبب في الهدف الذي أصاب مرمانا في العام الماضي .. أخرج الطلاب كتاب الأدب الإنجليزي المقرر وهي القصة المزنة (( وداعاً أيها السلاح )) للكاتب آرنست همنجواي , كان الدرس يدور حول الحرب العاليمة الثانية , عن النازية والفاشية . . دار النقاش سجالاً بيني وبين الطلاب , وليد وطلال على تفوقهما في لعبة كرة القدم كانا أيضاً يمتازان بالجدية وسعة الأفق والنقاش بيننا لاينقطع حتى إلى الحارة فهما من أبناء حارتنا , رفع طلال يده يريد الاستفسار . . فأذنت له .
- ما معنى اصطلاح المقاومة الوطنية ياأستاذ جمال ؟
- المقاومة الوطنية هي عندما يغزو بلد عدو يقوم أبناء الشعب القادرين على حمل السلاح على القادرين على حمل السلاح على القاومة بكافة السبل .
وأخذت أشرح لهم بإسهاب عن المعاني البطولية والدور المشرف لحركات المقاومة الوطنية في العالم . . جعلت الفصل يتحول إلى ثكنة عسكرية ثم أردفت قائلاً :-
- أرجو أن يكون درس اليوم دافع لنا في خوض المبارة أمام مدرسة الغربية بروح معنوية عالية. رد وليد بصوت متحمس .
- أعاهدك يأستاذ جمال أن سيكون حليفنا .
نظرت الى وليد نظرة يعرفها جيداً أنه سيأتي بعدها تعليق لن يسعده .
- فعلاً إذا ذهبت لتنام فوراً بعد انتهاء اليوم الدراسي بدلاً من التسكع أمام مدرسة البنات .
ضج الفـصل بالضحـك ووجه وليد إلى وليد نظرة عتاب . . كنت أعرف أنه يحب ابنه نواف الصغرى رحاب ويجلس بجوار مدرستها , رن الجرس معلناً انتهاء الحصة وتسللت خارجاً وسط هتافات الطلاب فقد أثار موضوع الدرس حماستهم , وكان الصداع قد بدأ يشعرني بالدوار اتجهت إلى مكتب مشرف الدوام اليومي وأخذت منه أذن بالانصراف وفي الطريق استوقـفت سيارة أجرة إلى صيدلية صديقي اللدود محسن , يحكم الزيارات التي يقوم بها محسن لنا كثرت زياراتي إلى الصيدلية . محسن من الشباب الكويتي المثقـف يحب الإطلاع الحر على كافة أنواع الأدب العالمي . . يلتهم الكتب التهاماً وهذه هواية مشتركة بيننا . . دلفت إلى داخل الصيدلية بعد الدوران حول السيارة المرسيدس التي تـقـف أمام الباب ولمحته يـقـبـع في الداخـل بنظارته الطبية يطالع كتاب . . تنحنحت بصوت أجش .
- صباح الخير يا مدلل .
- ياهلا يابن النيل المعلم كرشة
- ماعندك اليوم
- رواية زقاق المدق استدرت
حول المنضدة وجلست قباله ، وضع محسن الكتاب بعيداً ونظر إلي ووجهه تضيئه ابتسامة عريضة , فقد تعود دائماً أن آتيه بالأخبار الطبية.
- أخبار طيبة وأخبار سيئة.
- فال الله ولافالك . . هات الطيبة أولاً
- لقد وافق عم نواف على الزواج بعد أن أقنعه إبراهيم بأنكما ستقيمان معه كما يريد ثم بعد الزوراج لكل حادث حديث .
ضحك محسن في جزل وقد امتلأت عيناه بالدموع وذلك لأن عم نواف كان دائماً يضع العراقيل أمام زواج ابنته سعاد بحجة أنه لايستطيع أن يترك أبنته ترحل بعيداً عنه إلى الضاحية حيث يقيم محسن وردد محسن :-
- إبراهيم له هدية مني , وجائزة كبري , ماذا أيضاً
- إننا اليوم سننتصر عليكم في المبارة هذا ماقاله إبراهيم بعد أن فسر حلم عم نواف في زيارته الصباحية اليوم
أطلق محسن ضحكة ساخرة كان لها فعلها في نفسي وزادت من احساسي بالصداع . . نظر محسن إلي في إشفاق .
- ماذا بك تبدو مريضاً ؟ !
- لا أدري منذ صباح اليوم ينتابني شعور غريب بأن هناك شيء ماسيحدث .
- ماذا دهى أهل هذا البلد لقد حضر اليوم أكثر من ثلاثين زبون يطلبون أقراص مهدئة ويعانون من شعور غامض .
ألتفـت محسن إلى رف جواره وناولني علبة دواء كتب عليها طريقة التناول :-
- هذه الأقراص ستنهي الصداع فوراً .
- أرجو ذلك . قطعت حديثي واتجهت نحو منحي أخـر , تذكرت الكتاب الذي وصلني بالبريد للتو من القاهرة , كنت أعده مفاجئة لصديقي الذي يحب الكتب كالقطع النادرة .
- لدي مفاجأة , ماذا تستحق ؟
أخرج محسن مفتاح السيارة المرسيدس وبطريقة درامية ألقاه على المنضدة , أخذت المفتاح ووضعته في جيي .
- نعم تستحق ذلك .
فتحت الجلدية وأخرجت منها كتاب (( ساعة نحس )) للكاتب الكولمبي جبريل جارسيا مركيز , أختطف صديقي الكتاب وأخذ القلم يقلب صفحاته في لهفه كأنه قطعة من ذهبية وهو يتمتم بعبارات الشكر : - أسم غريب لرواية . . " ساعة نحس " ! - نعم غن هذا الكتاب الغريب الأطوار يتـفـنــن في وضع الأسماء والخواتم لرواياته في خاتمة هذا الكتاب مثلاًَ يقول (( أنتهي كل شئ . . امتلأت السجون وانتشر القتل في كل مكان وعمت الفوضي البلدة . . وجدوا أسلحة مخبأه في أرضية دكان الحلاق وتسرب أهل البلدة وانضموا إلى صفوف المتمردين في الجبال والغابات )). كان محسن ينصت بانتباه شديد وهو يقلب الكتاب , نهضت واقفاً : - نتقابل في الساعة الخامسة موعد المباراة . - نتقابل في ساعة نحس !! قالها محسن في سخرية الذي يضمن الفوز في المباراة ثم أردف قائلاً : - هذا إذا تمكـنت من حضور المبارة !! كانت هذه آخر كلماته وأنا أغلق الباب الزجاجي خارجـاً وفي الخارج تذكرت مفاتيح السيارة التي لاتزال في جيي وللمرة الثالة بعد المائة أسرق سيارة صديقي محسن الفارهة وانطلق بها إلى البيت تاركاً محسن يعود إلى داره بسياره أجرة تحت الشمس المحرقة والسيارة منطقة بي في الشوراع الكويت المزدحمة خطر في رأسي أن أغير ملابسي في أسرع وقت ممكن وأبتلع أقراص الصداع ثم أغرق في نوم عميق حتى العصر موعد المبارة , أوقفت السيارة أمام البيت ودلفت إلى داخل المنزل لمحت رحاب بنت عم نواف , لم تذهب إلى المدرسة اليوم يبدوأ أنها مريضة وتعاني من قلبها الضعيف , حييتها ودلفت إلى شقتنا وأغلقت الباب على نفسي وألقيت وألقيت بجسدي في الفراش بعد ابتلاع الأقراص حتى دون أن أغير ملابسي ورحت في سبات عميق .. استيقطت على ما يبدو عند منتصف الليل لا أدري كم كانت الساعة آنداك عندما سمعت طرق عنيف على الباب , نهضت بصعوبة وفتحت البـاب لأواجه إبراهيم ووجهه يضج بالانفعالات .
- أين انت جمال ؟ !!!
نظرت حولي في دهشة دلف إبراهيم الى الداخل وقد بدأ عليه الانزعاج ثم أبتسم في اشفاق وقال :-
- بحثت عنك في كل مكان , عندما لم أجدك ذهبت إلى المدرسة .
تذكرت المباراة وكأنما صعقت بتيار كهربائي صرخت
-: اللعنة !! يبدو أنها أحد مقالب محسن , أعطاني اقراص منومة بدلاً من أقراص الصداع يباً له اللعين , والآن عرفت مغزى كلامه الأخير . ضحك إبراهيم عندما ذكرت محسن وكاد يسقط على قفاه ونظر إلي مبتسماً : -
- إذاً هذا هو السبب وجود سيارته في الخارج , لاعليك انتصرنا عليهم بهدفين مقابل هدف ولك أن تسعد اليوم .
رقصت طرباً وأنا أسمع الخبر نهض إبراهيم يجهز العشاء وذهبت إلى الحمام وأنا أغني كالمجنون , وعندما جلسنا على العشاء قلت لإبراهيم : -
- أرجو أن تخبرتي بالتافصيل المملة على المباراة اليوم .تنحجنح إبراهيم ثم أدرف : -
-عندما ذهبت إلى المدرسة للبحث عنك وجدت الشباب في ذروة الاستعداد , كانوا منزعجين لغيابك , طمنتهم وذهبت معهم المباراة وهناك كان محسن وطلاب المدرسة الغريبة تغص بهم مدرجات الملعب .
- أخبرني كيف جاءت الأهداف ؟
- أحرزوا هدفهم الأول بنفس طريقة العام الماضي , كان وليد مضطرباً وقد تخطاه جناحهم المزعج قيس عدة مرات ومن عرقلة وليد ليقس أحتسب الجكم ضربة جزاء نجم منها هدفهم الأول .
سرحت بعيداً وأنا أتخيل وجه وليد الذيث غطته الدموع .
- مسكين وليد . . هذا شئ فوق احتماله لابد أنه بكي بكاءا مراً .
- نعم أنهار تماماً , لكن اعتمدت خطة نعرفها في بلادي , غيرته من مركز الظهير إلى مركز الجناح حتى أعطيه فرصة تجدد ثقته في نفسه . - كيف ذلك وليد يلعب في مركز الجناح .
- نعم هل تصدق أن وليد تحول فجأة إلى قاذفة نفاثة , أذهل كل المتفرجين , كان نجم المباراة , عكس العديد من الكرات تمكن طلال من استثمار أحدهما في إحراز هدف رأسي جميل أرتج لــه الملعب وانتهى الشوط الأول بهذه النتيجة تعادل الفريقين هــدف لكل منهما . امتلأت نفسي بالرضا وأنا أسمع وقائع المباراة التي لم أراها بفعل صديقي اللدود دائماً محسن ,
ثم نظرت إلى إبراهيم النفعل الذي واصل حديثه الشيق بأسلوبه السوداني وهو رجل رياضي مطبوع .
- في شوط المباراة الثاني دار اللعب سجالاً بين الفريقين , قبل آخــر المباراة بثلاث دقائق أنطلق وليد من مركز الجناح متخطياً مدافعهم العنيد بسام , توقع الجميع أن يعكس وليد الكرة لزملائه كالمعتاد حتى حارس المدرسة الغريبة توقع ذلك وتقدم كثيراً خارج مرماه لكن وليد المتألق أطلق كرة في قوس قاتل أسفرت عن هــدف في المرمي وسط ذهول الجميع , كان هدفاً رائعاً فعلاً .ارتخيت على المسند وتنفست الصعداء .
- الحمد لله رب العالمين .
نهض إبراهيم وهو يجمع الأطباق
- كان وليد نجم المباراة بلا منازع .
- كيف كان وقع ذلك محسن ؟!
- ترك الملعب كالمعتاد وهو يلعن الحكم ! انتبهت فجأة للصمت الغريب الذي كان يلف المكان حتى الضوضاء الذي ينبعث من تلفزيون عم نواف في الشقة المقابلة غير مسموع - ماهذا الهدوء المريب ؟ ! وكأنما أنتقل التوجس مني إلى إبراهيم فنهض وأتجه نحو النافذة ونظر إلى المدينة التي كانت تتثأب للنوم .
- حتى هذه اللحظة لم يحضر عم نواف وابنته لقد ذهبوا إلى السوق لشراء لوازم العرس ألا تلعم أنهم قرروا أن يكون الزواج في نهاية الأسبوع .
استدر إبراهيم , نظرت خلفه إلى المدينة التي تتلألأ بالأنوار كأنما ألقي خيمة من النجوم على الأرض وأبراج الكويت تلوح من البعد كأنها حرس أسطوري أو كائنات من العالم الآخر , فجأة اندفعت أضواء باهرة من بعيد تشق عنان السماء ثم تملاها انفجار قوي وصوت متقطع لطلقات رصاص , أنقطع التيار الكربائي وأظلم المكان , أذهلتنا المفاجأة واندفعنا بعد ساعة من التوجس نتلمس طريقنا إلى الخارج على ضوء أعواد الثقاب . . يبدو أن هناك شيء مايحدث في المدينة خرجنا إلى الشارع المظلم واندفعنا بين الخطوات المذعورة . وفي أول الزقاق عند طرف الشارع جانبي أوقفنا جنديـان وقادانا عبر الزقاق إلى الفناء الخلفي للحارة حيث كان يجلس عم نواف وابنتيه المذعورتين وطلال ووليد يقبعان عند قدمي جندي ثالث يشهر عليهما بندقيته آلية , همس صديقي إبراهيم في أذني في دهشة
- أنهم العراقيون !! لك أن لاتصدق ذلك
كدت أصعق من هول المفاجئة وأنا أجلس جوار صديقي إبراهيم الذي أردف قأئلاً : -
-أنا أعرف العراقيين كما أعرف أبنائي
رددت في أسى : -
- أمر يبعث على الحيرة !!
كان الجنود الثالثة يتحركون في عصبية ويبدو على اثنين منهما أنهما متفقان تماماً بينما الثالث مرتبكاً , أخذت أتفرس فس ملامح الجندي الثالث الطفولية وإلى ملامح القاسيه ولا أري أي انسجام .. ةالسيارات العسكرية تندفع في الطريق أمامنا عند نهاية الزقاق توقفت عربة نقل سوداء نادى سائقها على الجنود إذا كان هناك أسرى تقدم الجنديان من وليد وطلال وقاما بسحبهما بالقوة في اتجاه العربة السوداء ثم عادا مرة أهرى أشعل أحد الجنديين سيجارة و نظر ‘لى الفتاتين نظرة طويلة ذات مغزى ثم نظر الى رفيقه , احدهما سلاحه جانبا و اتجه نحو رحاب التي فرت مذعورة و اندست في صدر أبيها ، أنتزعها الجندي الضخم بالقوة بعد أن سدد لنواف لكمة قوية جعلته يغمى عليه و حملها و هي تصرخ و تتلوى و توسعه عضاً الى الناحية المظلمة من الزقاق وحذا الجندي الثاني حذوه أيضا مع سعاد التفت الجندي الى زميله الثالث الذي جمده الرعب و أمره أن ينتبه جيدا و استدار خلف زمسله الى الزقاق المظلم شعرت ان قلبي تزق نظرت الى خلف وميله الى الوقاق المظلم , شعرت ان قلبي تمزق نظرت الى صديقي ابراهيم الذي كان بتفرس في وجه الجندي الثالث ةعرفت انه ينوي ان يهجم على الجندي المذهول و يمزقه بمدية كان يحملها معه دائماً , مددت يدي خلسة و انتزعتها و أخفيتها تحت الترات و همست في حذر.
- إياك أن تفعل هذا !!
أخذ إبراهيم يرمق الجندي الثالث شذراً.
- إن هذ الفتى سينهار قريباً .
- أرجو ذلك.
علا صراخ الفتاتين القادم من الزقاق على صوت المدافع و طلقات الرصاص التي باتت قريبة جداًً , أفاق عم نواف و نهض بغتة و اندفع وهو يسب و يلعن , عاجله الجندي الثالث بوابل من الرصاص سقط بعده عم نواف وهو يذود عن عرضه , مات عم نواف و ماتت أشياء كثيرة غب داخلنا , فاض الدمع مــن عيني مدراراص وأنا أري جسده ممدد أمامي وعيناه اللتان لازال فيهما آثـار الغضب تشخصان إلى السماء , ظل الجندي يطلق الرصاص بصورة هستيرية عندما برز رفيقاه من الزقاق وهما ينظران إليه في غضب لم يتوقف عاجلهما بوابل من الرصاص أرداهما قتيلين , كانت هذه الأحداث تجري أمامنا كأنها فيلم سينمائي مرعب لم أدر هل هذا كابوس أم حقيقة ؟. أنهار الجندي الثالث على الأرض الموحلة يبكي بحرقة ويلطخ وجهه وجسده وينتفض في تشنج محموم ويردد : -
- ليتني لم أقتله , كان يشبه أبي !!
نهض إبراهيم ودلف نحو الجندي وربت برفق على كتفه : -
- هون عليك يأخي أنها لبرب وأوزارها .
هدأت أنفاس الجندي وأنهار على الجدار , يتنفس بصعوبة , تقدمت نحوه وأنا أهدي من روعه .
- ماأسمك .
- أسمي علي .
نظرت إليه في إشفاق كان وجهه الطفولي ينبئ بحالة التمزق الرهيبة التي تعاني منها دواخله المحطمة .
- لاعليك ياعلي .. لقد صححت غلطتك وأخذت بثأر الرجل ويمكنك القيام بأعمال جليلة الآن ..
نظر الجندي إلي في دهشة , أخرجت مفتاح سيارة محسن من جيبي وأشرت له نحو الطرف الآخر من الزقاق .
- توجد سيارة مرسيدس وكما تعلم أن رفاقك يلئون المكان ونرجو منك أن تحضر السيارة .
أومأ الجندي موافقاً وناول بندقيته لإبراهيم الذي نزر إليه في إشفاق وهو يمضي مبتعداً
- لو قتلتُ هذا الجندي لكان هذا أسوأ عمل أقدم عليه في حياتي . تابعت الجندي بنظري وهو يغيب في الظلام ثم ألتفت إلى إبراهيم . - ألم أقل لك !! أن الجندي الثالث يختلف تماماً عن رفيقيه . نهضت أنا وصديقي ودوي الحرب يملأ المكان واتجهنا إلى الزقاق حيث توجد الفتاتين .. كانتا مغمي عليهما تماماً وثيابهما ممزقة , أخرج صديقي قميصه وغطي به جسد سعاد وأمرني أن احذوا حذوه واقترب من رحاب , للأسف كانت حثة هامدة توقف قلبها الضعيف من الرعب الشديد التي كانت تعاني منه وحملتها حيث كنا نجلس وأسجيتها جوار جثمان والدها , لحظات وكان نور المصابيح القوية للسيارة يبدد عتمه المكان توقفت السيارة جوارنا وترجل منها علي وحمل سعاد مع إبراهيم إلى النقعد الخلفي للسيارة ثم أنصرف الجندي وقبع جالساً عند الجدار , جلس صديقي إبراهيم على المقود وجلست جواره أحدق من نافذة العربة في ذهول إلى الجثث المتناثرة في الزقاق زقد بدأت دماؤها تتخثر : -
-" من كان يظن أن هذه الأجساد التي كانت تنبض بالحياة هذا الصباح تكتنفها رهبة الموت الآن ؟! إنها الأقدار تصنع ماتشاء" ,
أدار ابراهيم محرك السيارة ونظر إلى علي الذي قبع بعيداً ودفن رأسه بين ساعديه .
- هيا بنا نذهب ياعلي .
رفع الجندي رأسه وعيناه المملوءتـان بالدموع والإجهاد تتطلعان ألينا ولوح بيده : -
-لاعليكم ياأصدقاء , نحن الجنود الموت هو ملاذنـا الأخير .
ألقيت علية نظرة وادع وقد دفن وجهه ين سـاعديه مرة أخرى وجسده يختلج في أسى , صـاح صديقي إبراهيم بلهجـة عسكرية آمــرة .
- أستاذ جمال !!! أغمض عينيك , كنت في الماضي أقود شاحنات الجيش القبيحة بين الأدغال وحقول الألغام في السودان والتاريخ يعيد نفسه وهآنذا أقوم بنفس العمل بين غابات الأسمنت .
عند نهاية الزقاق سمعنا دوي طلقات مسدس ورأيته في المرآة ينهار علي الجدار ..انطلقت السيارة كالسهم المارق تشق شوراع الكويت المشتعلة , لمحنا مدرعة على جانب الطريق , أدارت مدفعها نحونا وأطلقت قذيفة مدوية حاد عنها إبراهيم ببراعة , لولا مهارة إبراهيم في قيادة السيارة لكنا في عداد الأموات , أخذنا نتلمس طرق جانبية .. خلفنا المدينة المحترقة وراءنا وصوت المدافع والرصاص يمزق السكون كانت السيارات المذعورة تطوي طريق الإسفلت الملتوي كالثعبان متجهة جنوبا ً , ومصابيحها تتقاطع كحبات اللؤلؤ يبدوا أن الأخطبوط اسشرى في المدينة , بينما السيارة الفارهة تنساب بنا في الطريـق خطرفي بالي صديقنا محسن " أين هو الآن ؟ ! .. لقد أخطأت في حقه بأخذ سيارته , أرجو أن يكون تمكن من الخروج " كان إبراهيم يتميم ويصر باسنانه وهو يحدق في الطريق أمامه بعين مفتوحتين إلى الآخر , كانت الطريق مزدحمة. أثر صديقي الانسياب بالسيارة على الرمال الناعمة في سباق مع الزمن , مرت اللحظات ثقيلة , مع أزيز المكيف الداخلي للسيارة والأنات التي تطلقها الفتاة المسكينة كلما طاحت السيارة في مطب رملي , أضحت هذه السيمفونية الرمادية* التي أغمضت عليها عيناي وأنا أسترجع وقائع هذا اليوم الرهيب في تداعي مرير .. ومع خيوط الفجر الأولى لاحت لنا أنوار مدينة الخفجي تتلامع من بعيد … كأنها ألف ابتسامة أعدت لاستقبال هناكهوامش:السيموفنية الرمادية:قصيدة للدكتورة سعاد الصباح .