الجمعة، 20 يونيو 2008

لاشيء يعدل الوطن


سيرة مدينة
عطبره..مدينة النهر المتمرد





يشبه الشاعر الراحل نزار قباني المدن بالنساء ولكن مدينتنا رجل فحل!!..عطبره،يسمونها في السودان عاصمة الحديد والنار،تقع في الشمال الأوسط للسودان عند ملتقى نهر النيل القادم من الجنوب بنهر عطبره القادم من الشرق،النهر المتمرد الذي يندفع من جبال إرتريا في عنفوان جنوني ويأتي دائما فجأة كالأقدار،يحمل في طريقه الدمار والشرور ويلتق بالنيل في رحلته الهادئة ويرحلا معا شمالا إلى مصر المؤمنة..
استوطن الإنجليز مدينتنا نسبة لوجود مرفق السكة الحديد الضخم من حيث الورش وخطوط السكة حديد التي تتشعب داخل أحياء المدينة لذلك تجد أن القطار يحمل اكثر من معنى في حياتنا ويتغن به مطربين المدينة في العديد من أغانيهم"قطاروا حل يا ناس قطارو حل ،ترك لعمر الآلام والمزلة..الزول مسافر ودعتك الله" وفى أغنية أخري "قطار الشوق بتين ترحل تودينا نزور بلدا حنان اهلا وترسى هناك ترسينا..نسالم عطبره الحلوة"
كما إن نمط الحياة الإنجليزي الطابع،الهادئ واحترام قيمة العمل سائدة بين سكان المدينة اللذين جلهم من العمال..تقسم محطة السكة الحديد الضخمة المدينة إلى جزئين كبيرين،تنتشر المنازل الحكومية المبنية على الطراز البيرطانى في كل أنحاء المدينة،كما يوجد كبرى الحرية الذي يمر فوق محطة السكة حديد ويربط طرفي المدينة ويكسب المدينة طابع حديث..اجملا إن مدينتنا هي قطعة من بريطانيا في قلب أفريقيا.تجد اللمسات الإنجليزية في كل مكان وفى كل إنسان رغم رحيلهم عن السودان منذ أمد بعيد 1956 وتدهور مرفق السكة حديد وكل مظاهر الحياة المعاصرة التي اكتسبناها منهم في ظل الحكومات الوطنية المتعاقبة.لم تتم إضافات نوعية أو كمية لهذا المرفق الحساس إلا في عهد الفريق عبود 1958-1964 وسبعينيات الرئيس نميرى الذهبية
يمتد حتى السودنة الراقي في الجزء الجنوبي الغربي من المدينة وتظلله أشجار اللبخ_ficus sangalasis بكثافة ويمتد معه شملا حي الداخلة الذي يسكنه العمال وجل بيوته مبنية من الطين اللازب وتنتشر في أشجار النيم-azadrikhta indica وفى بيت من هذه البيوت الطينية الذي بناه جدي احمد الأمين وكان يعمل خفير في السكة حديد كان مولدي 1961..في هذا الحي الفقير والغنى بأهله الطيبين أما بقية الأحياء التي تقع شرق محطة السكة حديد فهي كثيرة وبمسميات مختلفة طبقا للمناطق في الشمال التي جاء منها قاطنوها،الحصايا ..امبكول،الموردة الامتداد الشرقي ،الامتداد الشمالي ،حي المطار..الفكي مدني
ديموقرافية المدينة تتركز على القبائل الرئيسة الثلاث في شمال السودان،الدناقلة والشايقية والجعليين واقليات أخرى مثل الهد ندوة والزبيدية من شرق السودان والنوبة من غرب السودان والدينكا والنوير من الجنوب يوجد أقباط مصريين وبعض التجار من اليمن وينتشر نسيج ديني بين المسلمين والمسيحيين فالمدينة تجسد الوحدة الوطنية تنتشر فيها المساجد والكنائس والمقابر ذات الصلبان والمقابر العادية..لقد جعل هذا التداخل الفريد بين القبائل والأعراق مع التواجد المكثف للإنجليز في الماضي إلى إظهار روح أخلاقية متميزة لابناء عطبره تبهر كل زائر يأتي إلى المدينة..سكان هذه المدينة قد كتب الله لهم برآة من النفاق،تلك السلعة الرائجة في المجتمعات المتخلفة،لذلك كان للمدينة دورها النضالي والمستمر عبر العصور"عطبره رأس السهم في طليعة التغيير والحرية"..يعيش الناس في مدينتنا مبدأ الحرية لكل فرد وفقا للحديث القدسي "يا عيسى عظ نفسك إن اتعظت فعظ الناس أو استحى منى"،فهم أناس أسوياء يعيشون في مرحلة متقدمة .."مدينة الإنسان" التي لم تأتى بعد..عذرا عزيزي القارىءآ سأتوقف هنا لأني اعتقد أن الوقت المناسب للكتابة فبه عن المدينة الساحرة التى تقع عند مجمع البحرين لم يأتي بعد
**********
الغجر..أول دروس الحرية
عندما كنا أطفال في مدينتنا عطبره،كنا نراهم يأتون من الشمال رجال ونساء وأطفال يشبهون الملائكة،نحن نسميهم "الحلب"..يأتون من مصر،يدفعون معهم قطعان من الحمير،عندما يصلوا حارتنا يجلسون تحت أشجار النيم الظليلة،تدور النساء فى البيوت يبعن الأواني المنزلية وأدوات خان الخليلى التي جلبوها معهم من مصر بينما يعمل الرجال فى صناعة المواقد من التنك والصفيح كانو عمال مهرة فى هذه الصنعة لدرجة الإبهار،الغجريات الشابات الجميلات ذوات الجمال والسحر الفاجر يطفن بالمنازل لشراء الملابس القديمة أحيانا توفير متعة عنيفة عابرة لأي رجل تتاح له فرصة الانفراد والتهام هذه الفاكهة البرية المحرمة،بعيدا عن الملل الجنسي المزمن فى المدينة،نساء الغجر يتحلين بالأساور الرخيصة ويضمخن أعينهن بالكحل وايديهن بالوشم..كنا نحن الأطفال نركض خلف نساء الغجر المسنات آلائي يحملن الأواني فى سلة كبيرة على رأسهن،يجلبن الزبائن لبضاعتهن بالصياح بصوت ممطوط يشوبه غنج ودلال قديم ..كنا نردد خلفهن أهزوجة بذيئة
هي يا هي
هي الحلبية
شايلةا قفتا
ماشة حلتا
العقرب قرصتا
فى (..)
كنت انظر إلى الغجر كظاهرة غريبة موسمية بعيني طفل متأمل..لماذا هم هكذا؟!
_ لا يحدهم زمان وليسو بقايا المكان..فى حلة رحيل دائم
بعد تلك السنين وأنا ادرس فى الجامعة ،جئت فى العطلة إلى مدينتنا وكنا نسكن فى منزل حكومي جوار مدرسة البنات الثانوية..كان أبى مدير المدرسة،فى ذلك اليوم شاهدت امرأة غريبة تجلس مع أمي،شابة بيضاء فى غاية الجمال..أيقظت ذاكرتي الطفولية..كانت من الغجر..جمعت لها أمي الطيبة الملابس القديمة،حملت صرة الملابس وظلت ترمقني بشبق جنوني وانصرفت،لسعنى التيار الكهربي المنبعث من عينيها..ترددت لحظة ثم هرولت خلفها..اتجهت نحو أشجار النخيل أمام المدرسة حيث كان يجلس رجل غجري يفترش بطانية وجواره قطيع من الحمير وطفلين يلعبان.. نظرت أليها وهى تبتعد متهادية فى غنج ودلال وعدت احصد الخيبة لأني تأخرت كثيرا استحياء من أمي..وعند الغروب أمرتني أمي بان احمل الموقد القديم الى الحلبي ليقوم بإصلاحه، حملت الموقد حيث يجلس الرجل فى العتمة مع عائلته الصغيرة, كنت اقترب منهما وهما يتلاطفان ويضحكان فى براءة..كانا أشبه بطائرين فى البرية وطفلاهما نائمان,لم اشعر بأي استهجان لذلك ولم أتراجع..اقتربت اكثر واكثر لمحنى الرجل وفلت المرأة ونظر الى وابتسامة مشرقة تغمر وجهه وضعت عنده الموقد وطلبت منه إصلاحه حتى الغد وسأعود صباحا لاخذه
انبرى الرجل قائلا فى لهجة ودودة"لا عليك ستقوم هادية بإحضاره لكم"..أيقظ ذلك الأمل مجددا فى نفسي الأمارة بسوء وقبل أن استدير منصرفا انقض الرجل على زوجته مواصلا لعبة الطبيعة..هكذا كانو يمارسون الحياة دون تكلف وتركتهم سعداء بعد أن.تجدد أملى بالتهام الفاكهة البرية غدا
************
استيقظت فى العاشرة صباحا آخى تعد الإفطار فى الموقد الجديد..خرجت على عجل ونظرت الى مكانهم حيث كانو يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ولم اعثر لهم على اثر
هكذا سكنتن روح الغجر فى التحرر والحرية الى يومنا هذا حيث أصبحت اكره كل أنواع القيود والتسلط التي تفرضها المجتمعات إوز الانفراد المختلين الوعي والشعور من أصحاب الأفكار الهدامة الوافدة الى السودان والعلاقات الإنسانية المشوهة..ما اجمل حياة الغجر..والرحيل الدائم..البساطة وخلوها من تعقيدات المدنية الزائفة..فمن منا لا تسكنه روح الغجر المتمردة؟!!
الغجر الزمن لا يعرف أحدا منهم وانهم ليسو بقايا المكان
النسر المتشرد
11/8/1998

ليست هناك تعليقات: