السبت، 21 يونيو 2008

لا شيء يعدل الوطن



تيس عبد المعروف

كنا نراه يجوس في طرقات مدينتنا،يمشى بخيلاء تسبقه رائحته النتنة في كل مكان،تلك الرائحة القبيحة التي يمكنها أن تسقط صقرا من ارتفاع عشرة ألف قدم فوق سطح البحركان لا يتوانى في الإعلان عن فحولته أمام الآخرين بإصدار تلك الأصوات العالية التي يسمعها كل سكان الحارة..كان يسبب لنا فزع رهيب نحن الأطفال،متخصص في مطاردة الأطفال خاصة الإناث ولا يتركهن حتى يلوثهن ببوله النتن..انه أحد معالم مدينتنا في تلك الفترة في السبعينات..انه تيس عبد المعروف سمعنا نحن الصغار أن عبد المعروف رجل من ولياء الله الصالحين فكان لابد لهذا التيس الضخم الجثة أن يستمد قدسيته،من ذلك الولي..يدخل بيوت المواطنين يعيث فيها فسادا..يلتهم كل شيء ولا أحد يستطيع أن يزجره حتى لا تذهب البركة من البيت..أحيانا يغزو السوق ويتناول الحبوب في الفراشات..هذا التيس يتجول في كل طرقات المدينة يعاشر كل الماعز ولا يجد من يقف في طريقه حتى جاء ذلك اليوم المشهود وكنت قد غبت عن المدينة طويلا بحكم عمل الوالد في وزارة التربية وتنتقل عبر مدن السودان المختلفة أخبرني صديقي عوض(طقش) في يوم كانت مباراة حاسمة لفرقة كرة القدم (نادى الوادي)الذي يشجعه أبناء حارتنا أدت النتيجة إلى هزيمة فرقتنا وسقط إلى درجة الثانية،خرجت الجماهير الغاضبة تندب حظها العاثر وكان تيس عبد المعروف..الذي دب فيه الكبر لا يعرف ذلك،اندفع خارجا من زقاق يسير بخيلائه المعهود أمام الشباب اللذين لم يعاصرو الأسطورة ونشأوا في ثورة مايو الاشتراكية،ما كان منهم إلا أن اندفعوا يرجموه بالحجارة ويضربوه بالهراوات والسيخ حتى اسلم الروح وسحبو ا جثته بالحبال والقوه في مزبلة المدينة مع القوى الرجعية المرتبطة بالاستعمار وانتهت أسطورة التيس الذي لا يقهر ،التيس المقدس..تيس عبد المعروف,الذي قضى عليه حظه العاثر ولم يمتد إلي عصرنا هذا الذي أصبحت فيه التيوس من أرباب المجالس

أبو جنزير

في السبعينات الذهبية غزت روايات الجيب مدينتنا وتكالب الشباب في ذلك والوقت على قراءتها وعلى ضوء الأجواء المرعبة البوليسية لقصص أرسين لوبين للكاتب الفرنسي موريس لبلان انتشرت أسطورة مرعبة فى المدينة..أبو جنزير هذا اللص الخطير الذي يضرب ضحاياه ليلا فى مخادع نومهم وينهب أموالهم ويوزعها على الفقراء..سببت هذه الأسطورة لنا نحن الصغار الرعب جعلتنا نلجأ للنوم مبكرين..مع مرور الزمن انحسرت الأسطورة وتجسدت فى شكل مواطن عادى يعمل فى السكة حديد اسمه"محمد عوارة" هذا الذى كان يعيش وحيدا ويقال انه هرب يوما بالسفينة من ميناء بور تسودان الى الهند وتعلم فنون السحر حيث اصبح كلما اعتقلته الشرطة يتسرب كالهواء من الزنزانة ويعود لارتكاب جرائمه بطريقته المفضلة الإجهاز على الضحية بجنزير الدراجة وسلبهاعتقد انها كانت أكاذيب لا تسعها مخيلتنا الصغيرة.إلا إن هذا الرجل الذى تمخضت عنه الأسطورة قام بدور بطولي وطنى جعل الرئيس نميرى يكافئه عليه وذلك عندما شب حريق مدمر فى مخازن السكة حديد استطاع هذا الرجل أن ينقذ ماكينة غالية الثمن كانت ستكلف الدولة كثيرا أصيب جسده بحروق ظلت كالوسام تغطى جسده المشوه ثم بعد ذلك سنين اصبح يتجول فى المدينة بدراجته الهوائية ويمازح الناس فى الطرقات والأسواق مرددا بصوته الجهوري- حذراك من ثلاث الله والكهرباء ونميرى!!

صافرة السكة حديد

عندما يأتي زائر غريب الى مدينتنا لا بد إن يصاب بالذعر ويهب من نومه صباحا على صوت صافرة داويه تجتاح المدينة لكن سرعان ما يعرف من مواطنينا.انها صافرة العمل وليست صافرة إنذار بغارة أو كارثة فقط عليه الخروج إلى شارع ليشاهد ارتال الدرجات الهوائية التى يركبها العمال تنساب من كل حدب وصوب نحو ورش عمل السكة حديد،الموظفين الى المكاتب والطلاب الى المدارس والنساء الى الأسواق يجلبن الطعام واللحوم لاعداد وجبة الفطور والغداءهكذا كانت مدينتنا فى الستينات والسبعينات,كانت هناك صافرة متميزة تحدث آخر كل شهر فى الساعة العاشرة تماما تهز وجداننا ونحن الاطفال وتسعدنا..انها صافرة الماهية "المرتب".يوم صرف المرتب اسعد يوم فى مدينتنا ياتى الاباء والاخوان محملين بما لذ وطاب ومن الهدايا التى تسعد الأطفالسوق الزيارةفي يوم صرف المرتبات عصرا وأيام الجمعة ينتعش سوق الزيارة ،هذا سوق سمى كذلك لان من العادات الخاصة جدا بمدينتنا وبعض المدن السودانية الأخرى زيارة المرضى بصورة منتظمة في المستشفى الحكومي الكبير المشيد منذ أيام الإنجليز نجم عن ذلك سوق مؤقت يفرش فيه البائعين كل ما يخطر في بال من أشياء تلزم الأطفال والنساء والرجال..ملابس وعطور أواني منزلية،لعب وحلويات..هذا السوق الذي يمتد أمام المستشفى يعتبر ظاهرة فريدة في المدينة ،تجد فيه كل الناس وكل الأخبار..الناس في أبهى حلة وهم يعودون مرضاهم،الشيء الذي يجعل المريض يحس في تلك اللحظة الحرجة للانتقال إلى جوار ربه انه محبوب وانه عزيز على كل الناس ولا زال هناك فسحة من الوقت للتسامح ..يجد كل العزاء في الوجوه الطيبة التي تحيط به من كل جانب،نحن السودانيين في الحقيقة اناس وجدا نيون نعيش في عالم المعاني.زكما نه عند زيارة المرضى تنتهي الخصومات وتعقد الصفقات التجارية وتتولد قصص الحب العابر بشقيه العذري والحسي لا فرق،انه طبيعة إنسانية كما يقول ما يكل جاكسون في أغنيته الشهيرة human nature نحن في مدينتنا لا نهين النساء ولا نستهجن الحب ولا نحاصر الناس بسلوكياتهم الخاصة كل إنسان شريف ما لم تصل قضيته دوائر الشرطة والمحاكم اذا كنا نبحث عن التميز،مدينتنا تحيا بالديموقراطية وتموت بموتها ،نحن لا نتبع الظن أو نجرم الآخرين.. لا ازدراء لا تحقير هذه الحرية تعطى كل إنسان في المدينة طابع الانجليز

جانوار

من معالم الحضارية في مدينتنا والتي نعتز بها كثيرا..السينما توجد بالمدينة ثلاثة دور للسينما، الوطنية ، الجمهورية ، الجديدة ولكل سينما نكهتها الخاصة وجمهورها .. إن للسينما في مدينتنا شعبيتها ، يدخلها الكبار والصغار النساء والرجال. المثقفون والمنحرفون .. أنا شخصيا أجد نفسي مفتونا بهذه الساحرة وذلك لان أبي كان يأخذنا ونحن صغار الي السينما .. أضحت تجري في دمائنا .. كانت في السبعينات موجة الأفلام الهندية وقدرة السينما الهندية غير العادية علي الإبهار جعلت من الأفلام الهندية اكثر شعبية واعتقد أن فلم( جانور )و (تسري منزل) و (من اجل أبنائي) من أكثر الأفلام التي حققت إيراد في ذلك الزمن .. لقد انبهر الناس بجمال الطبيعة وجمال الممثلين والممثلات الهنود فكان حلم الشباب في عمر أخي الأكبر السفر الي الهند والتزوج من هندية كما أصبحت الأغاني الهندية تصدع في محلات لبيع المشروبات والسيارات .. هذا حال الأفلام الهندية ، النوع الأخر المفضل من الأفلام تعرضه السينما الجمهورية بحكم موقعها حيث سكن الأحياء حولها مواطنين من أبناء جنوب السودان وجبال النوبة وهؤلاء يحبون أفلام رعاة البقر التي تترك فيهم أثر رهيب وبحكم أنهم يعملون خياطين في السوق ، قاموا بتفصيل ملابسهم علي طريقة أفلام دجانقوا وسارتانا.. أما السينما الجديدة فتوجد في حي السودنة الراقي لذلك تمتاز أفلامها بالنزعة الرومانسية ، أفلام إنجليزية ، فرنسية ، وعربية ويدخلها المثقفون وأصحاب الشأن .تعتبر مدينتا أول من حاول أن ينهض بصناعة السينما في السودان ، أول فلم قام بإنتاجه الرجل الموهوب الرشيد مهدي أخرجه ملاسي ، وكان اسمه آمال وأحلام الشيء الذي جعلنا نحلم دائما بان عطبرة ستكون يوما ما هوليود السودان وحتي الآن يحصد أبنائها الميداليات الذهبية والفضية في الدورات المدرسية الثقافية في مجال المسرح والتمثيل إن الوعي الحضاري الذي تجسده مدينتنا واكتسبته من تواجد الانجليز قديما جعل المواطنين يعتبرون السينما أداة للتثقيف وليس للتسلية وإزجاء الفراغ كما أنها ليست عيبا رفعت الحس التذوقي للإنسان ، أسوق لكم هذه القصة لتدل علي ذلك .. في أواخر الثمانينات التقيت بالمواطن عيسي هبن وهو من أبناء قبيلة الهدندوه ، ويعمل حلاب ابقار في مزرعة ألبان عطبرة جلست مع هذا الرجل الذي يشبه الهنود الحمر أخبرني أنه يحب أفلام رعاة البقر وجت إن مستواه الثقافي عالي رغم انه أمي لا يعرف القراءة والكتابة وذلك بفضل دخوله المستمر الي السينما وتعرفه علي العالم الخارجي وقد قاده ذلك أن يربي أولاده وبناته بطريقة لبرالية خالية من مظاهر التخلف والاستبداد رغم بساطة الحياة التي يعيشها في خيام حول المدينة .كان حلمي يوما ان ادرس إخراج سينمائي في مصر إلا ان الظروف حالت دون ذلك اتجهت أثناء دراستي في كلية العلوم في نشاط سينمائي ( نادي السينما) في الكلية وتعرفت من خلاله علي أكثر القائمين في هذا المجال السحري ( السينما) منهم من اثر علي إيجابا ولا زلت اعتز بمعرفتي بهم ، الأستاذ هاشم صديق الأستاذ عبد الرحمن نجدي والأستاذ وجدي كامل ومنهم من اثر علي سلبا مثل جاد الله جبارة وإبراهيم شداد وايمان ويل (قسم الإنتاج السينمائي) ونكتفي بهذا القدر من الآلام مع الجميلة والمستحيلة السينما ومشوارها الصعب

*****

المولد

:من المناسبات السعيدة التي ننتظرها بشوق ولهفة مولد الرسولحيث تنصب الصيوانات الجميلة في ساحة المولد أمام الجامع الكبير في السوق وتعلق انوار الزينة كأنما خيمة النجوم قد سقطت علي الأرض وتقام محلات بيع الحلوى التي نحبها كثيرا : تأتي الطرق الصوفية والتي لها أكبر الاثر في تشكيل المجتمع السوداني من أنحاء البلاد تضرب طبولها وصنجاتها فتهز قلوبنا الصغيرة هزا ويستمر الاحتفال شهرا كاملا من الحلوى والليالي الروحية في عرس التاريخ مولد الرسول الكريم (وليلنا طهر بلا راح سكاري )

* ***

صرخة ميتا :

قصة قصيرة من وحي التداخل الديني والتشابك الإنساني في مدينتنا وقد كتبتها في شكل قصة..من ضمن المجموعة القصصية الاولى تحت اسم "كل ألوان الظلام"ميتا رجل من معالم مدينتنا عطبره وقد قابلت صديقي حمزة وهو زميل دراسة عبر مراحل التعليم في عطبره وفى جامعة الخرطوم ويكتب شعر باللغة الإنجليزية..كنا نجلس عام 1994 في حديقة الشعب بالحديدة نسترجع الذكريات وتذكرنا ميتا أخبرني حمزة ان له قصيدة باسم صرخة ميتا وتحداني ان اعمل قصة باسم صرخة ميتا حتى نخلد تلك الصرخة الداوية التي كان يطلقها عند الغروب وهو في نشوة السكر شفى منطقة الحلفا عن نهر عطبرهأنا إعطائي لشخصية ميتا بعد ميتا فيزيقى وتشبيهه بالمسيح الذي جاء يخلص الناس من آثامهم ..تجعل كل مسيحي من أصدقائنا في السودان يحس ان هناك مسلم يقدره ويدافع عنهم في زمن تشنجت فيه الأشياء لم يعد هناك فرق بين الحقيقة والابتذال ونهدى القصة الة الأستاذ الجليل وهيب جورج فأسرته الذي ترك عطبره وهاجر إلى بريطانيا والى جمال الياس دولتلى زميلي في الجامعة الذي هاجرت جل معظم أفرادها الى كندا وأمريكا وبريطانيا والأخ فرانسيس الذي هاجر الى استرالياالمجد لله في الأعالي وعلى الناس المسرة وعلى الارض السلام

هجرة النخيل"

حتى هذه اللحظة إني العن الزمن الذي اغتال طفولتنا السعيدة.. كل هذه الكتابات ماهى إلا حنين إلي ماضي لن يعود أبداهجرة النخيلمن وحي قصيدة باللغة الانجليزية لشاعر مدينتنا وفيلسوفها حمزة محمد الحسن..اسم القصيدة the green eye ويرمز بها الى حصاة التمر او نواة التمر فى مدينة عطبره التى تقع عند ملتقى نهر عطبره بنهرالنيل عند حافة وادى العميق الذى يمتد من الشرق الى الغرب,تقف اشجار النخيل الجليلة فى شموخ فى منطقة الحلفا وهى محملة بالتمور وتاتى الرياح اللواقح وتسقط هذه الاشجار ثمارها في مجري النهر المتمرد ، يأتي هذا النهر المجنون مندفعا من مرتفعات اريتريا ، يدفع الزبد أمامه ، ويحمل هذه الاجنة ويقذفها في رحم النيل الهادي القادم من الجنوب في منطقة المقرن عند الجسر الحديدي القديم يحمل النيل البذور "the Green Eye" ويتجه شمالا فتجرفها الامواج إلي كل من ضفتي النهر وتنمو هذه النوي في مكانها الجديد وتصبح افراد من غابات النخيل التي يعج بها شمالنا الحبيب وتتساال.. هل هذا موطن الاجداد .. وهجرة أسماك السالمون العكسية .. أم أنها سنة الحياة المندفعة من الشرق إلي الغرب كنهر مدينتنا المتمرد .. بين محطتين الميلاد والموت.قد سألت البحر / النخيل يوماًهل أنا يا بحر/ نخسيل منك ؟أم صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكضحكت أمواجه / أوراقه مني وقالت لست ادري !حكاية النخيل هذه الشجرة المياركة ، شبهها الله في محكم تنزيلة ب"لا اله إلا الله " ( الم تري كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) صدق الله العظمعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :أن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم أفتحدثوني ما هي ؟ فوقع الناس من شجر البوادي قال عبد الله وقع في نفسي أنها النخلة فأستحيت ثم قالوا حدثنا يا رسول الله ، قال هي النخلة " .. وفي رواية أخري "باب الحياة في العلم " ... بعد أن ساق الحديث وفيه زيادة.فحدثت أبي بما وقع في نفس فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن اكون كذا وكذا يضرب المثل ذكر في الاثر عندما خلق الله حواء من ضلع ادم بقي جزء خلق الله منه النخلة ، وأصبحت النخلة عمت البشر.علميا يمتاز هذا الشجر ( النخيل ) بانه مكون من ذكر وأنثي ويسمي ثنائي الجنس احادي المسكن، والتمر غني بالمعادن ويعتبر وجبة غذائية. اقتصاديا كل أجزاء هذه الشجرة صالحة لأستخدام البشر . الاوراق المخلفة تصنع منها الحصائر والسلال ، الالياف تصنع منها الحبال والحراشف تستخدم كوقود ، والجزع سقف للمنازل والعرجون علف للدواب ووقود أيضا .معنويا للحلم بالنخيل يقذف بالحجارة فيلقي تمراً.•

ليست هناك تعليقات: