الأحد، 22 يونيو 2008








ها انا اركب القطار مرة اخرى عام1988 وذلك للعمل كمعلم كيمياء في مدرسة كريمة الصناعية..كان القطار العجوز المتهالك يزحف بي في الارض الجرداء وانا في غاية الضيق والملل..كنا نسير عبر المحطات المقفرة حتى وصلنا كريمة التى بدت رمادية خاصة بعد الفيضان المدمر الذى حدث في نفس العام..إحياء باكملها تحولت الى انقاض..ارسلو لى برقية من عطبره بعد وصولي كريمة بعدت أيام فحواها ان عمتي سعدة توفت في مستشفى عطبره بمرض السكري نسبة لانعدام مصل الأنسولين..شعرت بالحزن العميق عليها..كان لزام على ان انزل البلد" مورة" مرة اخرى لنقيم العزاء في بيت جدى عم ابى عبد المجيد..هذه المرة كان معي صديق من نوع خاص..من اعز أصدقاء الجامعة..عمر احمد حسن"شوكة"هذا الإنسان المبدع والذي له مكانة في قلبي لا يدانيها إنسان من أصدقاء الزمن الصعب ويحمل معه كاميرته التى يرصد بها كل شئ..كانت الرحلة باللوري لقد توقف النقل النهري منذ امد بعيد واضحت بواخره العتيدة ملقاة كالحيتان النافقة في ورش النقل النهري بكريمة..وصلنا البلد عصرا كانت الرمال قد قضت على كل معالم الحياة ودفنت معظم البيوت المهجورة واجهز الفيضان على السوق والمدرسة الوحيدة في البلدة..تقاطر المعزون من كبار السن الى بيت جدى عبد المجيد..كان الحزن يخيم عليهم جميعا,كأنما كانو ينعون أنفسهم..عند الغروب ذهبت الى بيت جدى احمد الامين الذى تحول الى أطلال وتساقطت معظم حجراته وبين تلك الخرائب كانت تقبع جدتي العتيدة وملهمة فنى "الحرم"وقد ذهب نصف عقلها أصبحت تخاطب الموتى وفى ذلك اليوم بكيت بكاءا مرا أمام صديقي عمر كان عمر الذكى مع كاميرته الجاهزة دائما لرصد هذه التفاصيل وقد قمنا بالتصوير مع الجدة التى اسعدها قدومنا ولم تعرف ان عمتي سعدة توفت ولم نستطيع توصيل هذه الحقيقة أليها فقد انفصل الخيط الفاصل بين الحياة والموت لديهاالجدة العنيدة الحرم خالة ابى كان لها بصمات واضحة في حياتي الأدبية من خلال مخيلتها الثرية التى أتحفتنا بقصصها ونحن صغاراواعتقد ان الكلام عن الحرم بصورة عابرة شيء فيه كثير من الإجحاف أتمنى لو أفراد لها كتاب وحدها..لم استطع أن أوصل لها خبر وفاة العمة وذلك كما أخبرتكم لان عقلها اختل وهى لا نعرف من مات ومن ظل على قيد الحياة..نمنا معا فى الغرفة الوحيدة السليمة فى البيت ونام عمر عند جدى عبد المجيد..في اليوم الثالث بعد انتهاء العزاء..جلسنا أنا وعمر عند منتصف الليل فى انتظار اللوري الذى يعيدنا الى كريمة..كانت الجلسة فى ذلك الظلام الدامس والصمت المطبق والمساحات الجرداء والبيوت المهدمة والسوقي المحطمة ذلك الصمت الرهيب الذى اعلن وفاة الشمالية بل قل وفاة السودان نفسه ,لا تنسوا أننا نعيش فى ديماجوجيةالمهدى "الديموقراطية الفاسدة" والمهددة بالزوال فى أي لحظة لولا الجهود الجبارة للسيد محمد عثمان الميرغنى وتضميه لجراح السودانيين فى الشمال والجنوب وفى الشرق والغرب..السيد محمد عثمان الميرغنى من أنبل السياسيين فى السودان أعفهم يدا ولسانا وهو رجل متواضع لا يتكالب على المناصب ولا يحب الجعجعة من غير طحين وهو رمز روحي سوداني حقيقي ..عمل المهدى بكل قواه على إجهاض كل إنجازات* هذا الرجل وتهميشها ولذلك تنبات بزوال الديموقراطية المصابة بالإيدز ..وفعلا صدق حدثي وبعد عام واحد جاءت الطامة الكبرى

*****************

مبادرة السلام السودانية والمؤتمر القومي الدستوريالصلح بين الفور والعرب فى غرب السودان الدعم المادي والمعنوي للقوات المسلحة فى تحرير الكرمك وقيسان تجاوز كارثة الفيضانات فى الشمال نتيجة للدعم المؤثر من كل الدول العربية الشقيقة على رأسها مصر*

******************

الجد عبد الكريم"إن جدي كان كشجرة السيال حادة الأشواك صغيرة الأوراق ..تصارع الموت لأنها لا تسرف في الحياة" الطيب صالح(موسم الهجرة إلى الشمال)يبدو أن الحديث عن الجدة الحرم قد طغى على شخصية أخري أسطورية تقيم في البلد"مورا"..انه الجد عبد الكريم اصغر أعمام أبى كان في الخمسينات يقيم في الخرطوم ومن أوائل المثقفين ،على ما يبدو كان في الجبهة المعادية للاستعمار والتي تطورت لتصبح الحزب الشيوعي السوداني لاحقا...لسبب ما ترك الخرطوم منذ الستينات بعد الاستقلال وجاء ليدفن نفسه حيا بين رمال البلد..كان مسكون بهاجس المخابرات وان جهة معادية تطارده ثم توهم شئ اسماه "أيوكأ" يردد هذه الكلمة دائما فى حديثه..وقد أحزنني أن يوجد إنسان بهذا الوعي العالمي يستطيع أن يحلل لك اقتصاد بوليفيا والتحولات الديموقراطية فى غرب أفريقيا ويعيش هنا على طريقة مصطفى سعيد فى موسم الهجرة إلى الشمال فى بيت آيل إلى السقوط ..كالنسر وحيدا..هذا الفكر الجبار المدفون فى الرمال ..يدل على تفاهة الحياة وقد يكون جدي قد استقرأ ما سيؤل له العالم اليوم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي..عندما نزلت البلد 1988 وجدته لا يزال هناك بقامته الفارعة التىتشبه أشجار النخيل وعينيه اللتان تلمعان ذكاءا..كان يشبهني كثيرا..ويرجع له الفضل فى الوعى الذي اتمتع به ألان.. جدي لم يتزوج حتى لا يدخل أطفال إلى هذا العالم التعس ويعيش وحيدا ولا يطلب شيء من أحد.. الإنسان الوحيد الذي ينال احترامه هو أمي..كان يفرح لزياراتنا للبلد..أنا اكتب هذه التداعيات فى اليمن ولا ادرى عن أخباره شئ منذ فراقنا البعيد وكان قد طلب منى شئ نسيته جعلني نادما حتى الآن وهو العفيف الذي لا يطلب أحد..طلب منى أن أرسل له غطاء "بطانية تقيه زمهرير ليلى يناير الباردة فى مناخ الصحراء القاسي,أرجو أن أتدارك هذا الأمر لاحقاأحيطكم علما بان كل التحليلات الجميلة والمنطقية التي كان يتحفنا بها ونحن صغار قد أضحت ماثلة الآن وواقع بشع بعد أن سيطر التيار اليميني الذي غذته أمريكا فى الحرب الباردة على مقاليد الأمور فى البلاد وكان يسميهم جماعة "أب زيد"..وقد حفزني ما قاله جدي وتدهور الأحوال فى الشمال وتدمير الفيضان للقرى والمدن عام 1988 على أن واترك السودان لاجد مكان لاقف عليه لاحرك العالم كما قال جاليلو

****************

مدينة نوري التي ذرتها فىرحلة من ثلاث أشخاص أنا ومدير المدرسة حسن عبد القادر والأستاذ احمد تاتاى..كان منظر الناس بين الخرائب و ".ربيع الدنيا.."الجميلة التي تمر دائما أمام المدرسة الصناعية وهوتمارس حب الأفلاك الذىيتخذ الحبيب فيه حولك مدار" لا قدرت اقرب من ضراك ولا قدرت لفراقك اصل"كما قال مطربنا العظيم عثمان حسين كل هذا الخراب يبعث على الحزن والأسى..أنها جمهورية العاصمة المثلثة التي ذكرها المفكر العظيم منصور خالد..لا تأبه للأقاليم ولا تعرف شيئا اسمه التنمية لذلك ستظل الشمالية دائما كم هي رغم وجود أبناءها فى ارفع المناصب داخل وخارج السودانفى كريمة لاحظت مشروع الكهرباء الألماني وهو لفتة إنسانية كريمة جعلتني اشعر بالتقدير للألمان وذلك للحس الإنساني الذي جعلهم يأتون إلى بلد أفريقي ذو حكومات عاجزة وعاطلة عن كل شئ ليخرجو الناس من الظلمات إلي النور ولا يسعك إلا أن تحترم منظر المهندسين الألمان وقد لوحتهم شمس بلادي المحرقة وهم يعملون بجد ونشاط والابتسامة الطيبة لا تفارق وجوههم..يكرمهم التجار البيبسى كولا والمشروبات الباردة ويحاولون إيجاد جسور من التواصل مع المواطنين من لغة عربية مكسرة بالطريقة الشايقية مع قليل من الإنجليزية بلكنة ألمانية محببة ,كتبت آنذاك قصة "أنشودة الجدة كارين"وهى من ضمن المجموعة القصصية كل ألوان الظلام التي أصدرتها فى اليمن عام1999

************

يا نسمة يا جاية من الوطن

بتقولى لى ايام زمان ما برجعن

ليست هناك تعليقات: